ما أزال أتذكر زيارتي الأولى إلى مبنى اتحاد الأدباء. أتذكر تلك الليلة بكل تفاصيلها، أتذكر حتى الكتاب الذي اشتراه الصديق أحمد خلف في ذلك المساء من مكتبة حياوي، "الفتى الجريء على الأرجوحة الطائرة"، (المجموعة القصصية التي حازت على جائزة البولتيزير عام 1934)، للأميركي من أصل أرميني وليم سارويان، والذي أهداه لي، لكي أقرأه، لكن تلك قصة سأرويها في مكان آخر.
زيارتي تلك لاتحاد الأدباء بصحبة أحمد فتحت لي الطريق لدخول عالم الأدب في بغداد. أعرف أن الأدباء الذين قرأت لهم في المجلات الثقافية التي وصلتنا وقبل وصولي إلى بغداد، هم كائنات بشرية لا علاقة لهم بالأساطير، لكن أن يفكر المرء بشيء وأن يعيشه هو أمر آخر. في مجلة الأقلام الشهرية التي صدرت عن وزارة الثقافة والإعلام أو في مجلة الأديب المعاصر الفصلية التي أصدرها اتحاد الأدباء أو في مجلة ألف باء الأسبوعية، قرأت للعديد من الأسماء التي عاش أصحابها في بغداد. كان النشر حكراً لهم، هم أدباء بغداد، إلا استثناءات قليلة طبعاً. بعضهم تعرفت عليه في تلك الليلة، والبعض الآخر كان عليّ أن أنتظر زيارات ومناسبات أخرى لألتقي به، بعضهم أصبح صديقاً لي، وبعضهم الآخر ظل ينظر لي، بصفتي "أديباً قادماً من المحافظات" أمر يعني أنني دون المستوى المطلوب! ومن لم أتعرف عليه في تلك الليلة في صالة اتحاد الأدباء، تعرفت عليه في مكان آخر، كما حدث في تلك الليلة، عندما أقترح أحمد تكملة سهرتنا في نادي الإعلام على شارع أبي نؤاس لأتعرف على أدباء آخرين هناك.
في نادي الإعلام الواقع في وسط شارع أبي نؤاس (لا أدري إذا كان ما زال هناك؟) تعرفت أولاً على الشاعر فوزي كريم (يقيم اليوم في لندن)، والذي جلس على ما أتذكر عند طاولة لوحده يراجع البروفات الأخيرة من كتابه "من الغربة حتى وعي الغربة"، الذي سيصدر عن منشورات وزارة الثقافة في نفس العام، ثم عبدالستار ناصر، الذي كان عمره 26 عاماً آنذاك، كبرني بعشر سنوات، والذي لم يجلس معنا أولاً، لأنه التحق بصديقه الخاص جداً حد الإشاعات، فوزي كريم!
برغم ذلك، من الصعب وصف سعادتي بلقاء عبد الستار ناصر. قصصه القصيرة التي نشرها في ذلك الوقت أعجبتني وعلى قلتها. كانت لها مكانة خاصة عندي، قارئ فضولي مثلي، ينظر باحترام لكل إبداع جديد، لا يمكن أن يتجاهل قصص عبدالستار ناصر آنذاك، لما اتسمت به من كافكوية شعرية، أو لما حوت عليه من إيروتيكية ومواجهات مع بطريركية ضاغطة، أتذكر قصة "الوجه" المنشورة في بداية السبعينات في مجلة الأقلام وقصصه الأخرى في ألف باء والطريق اللبنانية، والتي حوت عل شخصية شريف نادر (الفحل المستبد)، كل تلك القصص التي قرأتها قبل أن ألتقيه. بالنسبة لي كان عبدالستار ناصر في طريقه لأن يلحق بأسطوات القصة القصيرة العراقية الجدد الذين شكلت قصصهم مكانة خاصة في نفسي في ذلك الوقت والذين سبقوه ببعض السنوات، أقصد محمد خضير، أحمد خلف، جليل القيسي، (قبل أن يلتحق بهم قصاصون آخرون اكتشفتهم لاحقاً، أولهم قاص رائع، للأسف غبنه النقد العراقي، مثلما للأسف لأنه توقف، أقصد عبدالإله عبدالرزاق، صاحب "أوفيليا جسد الأرض"، والثاني منير عبد الأمير، نشر عدداً محدوداً من القصص واختفى بعدها هو الآخر من الساحة)، صحيح أن كل واحد منهم تطور بعدها بالاتجاه الذي ذهب إليه، فمن الصعب لاحقاً مقارنة المستوى الذي وصلت إليه كتابات محمد خضير مثلاً، الذي اقترب أسلوبه الأدبي من ناحية المضامين والتقنية كثيراً من أساليب القص العالمي، على خطى موباسان أنطوان تشيخوف، وسالنجر وشيوخ القصّ الآخرين، أو قصص أحمد خلف التي اعتمدت التجريب واقتربت من السوريالية ومن صاموئيل بكيت، "المحطة" مثلاً، مع كل القصص التي جمعها أحمد لاحقاً في مجموعته القصصية الفريدة "نزهة في شارع مهجورة"، والتي مع مجموعة محمد خضير القصصية "المملكة السوداء" شكلتا علامتين فارقتين في تاريخ القصة العراقية، أقول: لكن لا يمكن مقارنة أسلوب عبدالستار ناصر بهما، والذي راح يميل للإنشائية والمباشرة. تنوع طريقة الكتابة لكل واحد من هؤلاء الأسطوات في فن القصة القصيرة وأسلوبه الخاص به في حينه، جعلت لكل واحد منهم مكانة مميزة في نفسي، مثلما جعلتني أعرف أن كتابة أدب محلي يستفيد من مدارس الأدب العالمية هو أمر ممكن.
يتبع
ليلة تعرُّفي على عبد الستار ناصر
[post-views]
نشر في: 24 سبتمبر, 2013: 10:01 م