عندما اكتشف الفن تقنية السينما ، أصبح بإمكان موهبة التمثيل أن تتوسع في إبداعها من خلال هذا الاكتشاف المذهل . لقد أسهمت السينما في تنمية الموهبة التمثيلية لدى أقطاب التمثيل في العالم ، فكانت سينما الأبيض والأسود تنمّي وتقدم عشرات المواهب التي نضجت ، و
عندما اكتشف الفن تقنية السينما ، أصبح بإمكان موهبة التمثيل أن تتوسع في إبداعها من خلال هذا الاكتشاف المذهل .
لقد أسهمت السينما في تنمية الموهبة التمثيلية لدى أقطاب التمثيل في العالم ، فكانت سينما الأبيض والأسود تنمّي وتقدم عشرات المواهب التي نضجت ، وغدت علامات بارزة في تاريخ موهبة التمثيل السينمائي ، ثم تفرّع التلفزيون ليأخذ مساراً جديداً في علاقة الممثل بالمتفرج وهو يجلس في بيته هذه المرة.
لكن موهبة التمثيل العالية لدى أقطاب هذا الإبداع الفني هي أيضاً جعلت من السينما فناً مقبولا لدى الناس ، فبدون هؤلاء الكبار لما كان بوسع السينما أن تحقق هذا الحضور لدى شرائح الناس ، وبالتالي لما كان التلفزيون يخطو كل هذه الخطوات المتقدمة في علاقته التفاعلية مع الجمهور .
منذ الأزل جنح خيال الإنسان شطر فكرة التمثيل لتجاوز موقف حزين ، أو للخروج من مأزق ، أو حتى للتخفيف من وقع المصائب الكبرى التي تواجهه ، ويمكن اعتبار الشطار والمغفلين ، وأهل النكتة في التراث الإنساني الذين كانوا يطلقون النكات والطرائف ، والفكاهة ، والمواقف الساخرة نوعاً من التمثيل الموظَف لتجاوز موقف ما ، أو لبلوغ غاية ما .
التمثيل هو إمكانية الموهبة في براعة فن التقمص ، يكون الشخص ممثلا جيدا قدر تمتع موهبته بمدى إمكانات فن تقمص شخصيات وحالات مختلفة ، ويكون دون ذلك قدر محدودية هذه الملِكات في موهبته .
على هذا النحو تنفرز درجات التمييز في شخصية الإنسان الممثل ، فنرى ممثلا من الدرجة الأولى يكون سـيّد العمل التمثيلي الذي يؤديه ، ونرى ممثلا من الدرجة الثانية ، ثم نرى ممثلا من الدرجة الثالثة ، إلى ممثل من الدرجة الدنيا .
يمكن للممثل أن تقترن موهبته بشخصية قام بتمثيلها سواء في الأدوار التاريخية ، أو الفنية ، مثل اقتران اسم الممثل / أنتوني كوين / باسم / عمر المختار / ، واقتران / عمر الشريف / ب ـ / لورانس العرب / .
كما يمكن لممثل أن يمثـّل حقبة زمنية ، ويقترن اسمه بتلك الحقبة ، مثل اقتران جون ترافولتا ، بريجيت باردو ، كاترين دونوف ، جيمس ستيورات ، أنجريد برجمان ، بحقبة لهب الرومانسية .
ويمكن للمثل أن يمثـّل بموهبته وبراعته اتجاها في فن التمثيل ، ويكون قطب هذا الاتجاه دون منازع ، مثل شارلي شابلن - مارلون براندو - توني كوريتس .
يمكن لممثل أن يستقطب شرائح الناس الدنيا بموهبته الفنية ، ويبني علاقات غير مباشرة مع جمهوره ، فيتأثروا حتى بثيابه ، وتسريحة شعره ، وطريقته في الحياة من خلال فيلم سينمائي ما .
الممثل الجيد هو الذي يملك قوة وسحر التأثير على الآخرين إلى درجة الهيمنة عليهم ، نسيانهم بأنهم إزاء مشاهد تمثيلية ، والتفاعل المباشر مع وقع الأحداث التي تتمثل أمامهم سواء على شاشة ، أو على خشبة مسرح .
مثل هذه الهيمنة لاتقتصر على شريحة من الناس ، بل تشمل جميع الشرائح .
قيل لي أن امرأة عجوز أمية في قرية نائية ندرت ندرا ً ، إذا تحقق ما تأمله من حدث خلال متابعتها لمسلسل تلفزيوني ، ويحدث أن شخصيات مسلسل في فترة ما تحتل أسماء المواليد الجدد في دولة تعرض ذاك المسلسل الذي ترتبط به شرائح الناس عامة .
كما أذكر أن بعض الرؤساء والملوك في العالم كانوا يتجنبون أي ارتباط لدى العرض الأول لمسلسل / دلاس / التلفزيوني ، حتى يستمتعوا برفقة عائلاتهم ، في وقت واحد مع كل تلك الشرائح الهائلة من الناس بأحداث هذا المسلسل اليومي الاجتماعي .
إذن ، يمكن أن نرى صمتا دفينا يلف دولة بأكملها في ساعة معينة أنها الساعة التي تُعرض فيها أحداث حلقة جديدة من مسلسل يومي غدا حديث الساعة في أوساط مختلف شرائح سكان تلك الدولة نساء ورجالا ، شيوخا وأطفالا .
استطاع فن التمثيل أن يقدّم الفن السينمائي ، هذه السينما التي استطاعت أن تعود كل تلك القرون والأحقاب إلى الخلف لتؤرخ مجد الإنسان وتؤرخ فشله , تؤرخ انتصاراته وتؤرخ نكباته .
السينما هي ذاك اللحن الشجي الذي ينساب من الأعالي , إنها الضوء الساطع نحو الأعماق وخفايا الإنسان .
هي الخلود كما أن الإنسان هو الخلود في مواقفه وأعماله لأن السينما لا تستطيع أن تكون خلودا دون أن يكون الإنسان خلودا بالنسبة لما ترك من مآثر , فهي لا تستطيع أن تحيي النفوس الميتة , بيد أنها تستطيع أن تخلد النفوس الحية مهما كان لون خلودها أو مقياس خلودها .
كان نيتشه يقول بأننا :لا نستطيع أن ننقذ أنفسنا من الفناء إلا عن طريق الفن . أجل إنه نيتشه الذي استطاع ببراعة أن يقول جملة بالغة الجرأة كتلك لأنه بكل صراحة لم يستطع أن يمنع نفسه من ألا يقولها, لهذا كله أو لبعضه , أو لجزئه , فإننا نتوق إلى عالم السينما - في الأغلب من خلال برامج التلفاز التي تنتقي مثل هذه الأفلام عندما نكون في بيوتنا - وعلى الأخص تلك الأفلام السينمائية القديمة التي تحمل جزءا من تاريخنا .
عندما نشاهد فيلما سينمائيا فإننا ننظر إلى مرآة ذواتنا في سطوعها , إنها المرآة الأكثر وضوحا من أي مرآة أخرى , إنها المرآة التي لا غبار عليها , المرآة الأكثر سطوعا .
لقد كانت السينما أكثر جرأة وأكثر مصداقية وأكثر قربا إلى الواقعية .
كل تلك الأفلام التي شاهدناها فيلما فيلما , ومشهدا مشهدا , ولقطة لقطة , ومونولوجا مونولوجا , وتصويرا تصويرا , وإيقاعا إيقاعا .
كل ذلك كان يشكل الحقيقة الأبعد والأكثر رحابة وعمقا من أي حقيقة أخرى شاهدناها ولمسناها وتحسسناها .
يمكن لشخص سلبي أن يتمتع بموهبة التمثيل ، فتراه يستخدم هذه الموهبة سلبياً في المحيط الذي يعيش فيه ، وهنا وكما أن موهبة التمثيل الفني الايجابية تكرم صاحبها من خلال أعماله الفنية التي تترك آثاراً إيجابية على حقبة من الزمن ، فإن موهبة التمثيل السلبية تجعل من صاحبها شخصاً منبوذا غير موثوق به لأنه يشتهر بالرياء ، والنفاق ، والازدواجية .
يستطيع الإنسان الموهوب أن يوظف موهبته سلبا ، مثلما يستطيع أن يوظفها إيجابا .
ليس بوسعنا أن نقول عن أصحاب الاختراعات والمكتشفات السلبية في تاريخ الإنسانية أنهم أناس أغبياء ، فالذي يستطيع أن يبتكر الفيروسات الانترنيتية ، والذي ينجح في عمليات القرصنة المصرفية ، والذي يبتكر أسلحة الدمار الشامل ، ومزوّر العملات ، هم أناس أذكياء ، بيد أنهم يوظفون هذه المواهب لإلحاق الأذى بالناس ، بدل تقديم النفع لهم .
مالك موهبة التمثيل لايقل ذكاء عن أولئك الذين يتركون أثرا في الناس سواء بالسلب ، أو بالإيجاب .
يتبع