في واحدة من الليالي بقيت أتابع حتى ساعة متأخرة من الليل برنامجاً تلفزيونياً وقفت عنده بالمصادفة حين كنت أنوي الانصراف إلى النوم وقبل إغلاق الجهاز الذي نادراً ما أتابعه بانتظام منذ سنوات.. كان البرنامج للموسيقي نصير شمة وبرفقته ضيفان مغنيان، شابة وشاب
في واحدة من الليالي بقيت أتابع حتى ساعة متأخرة من الليل برنامجاً تلفزيونياً وقفت عنده بالمصادفة حين كنت أنوي الانصراف إلى النوم وقبل إغلاق الجهاز الذي نادراً ما أتابعه بانتظام منذ سنوات.. كان البرنامج للموسيقي نصير شمة وبرفقته ضيفان مغنيان، شابة وشاب، وكان موضوع الحلقة هو الشيخ زكريا إبراهيم، أبرز عباقرة اللحن العربي الكلاسيكي في مطلع القرن العشرين والذي احتفظ بتسجيلات متنوعة لأغانيه دائماً.
فهمتُ أن فكرة البرنامج تتركّز على التأمل في تجارب رواد في الموسيقى العربية، انصرفت عنهم الموسيقى والغناء المعاصران فيما اتجها إليه من وسائل وأساليب ولغة وايقاعات. تكثفت هذه الفكرة أكثر حين أعلن شمة في ختام حلقة البرنامج عن إنجازه لحناً يستعيد فيه الأجواء الثلاثينية والأربعينية كما تنعكس في موسيقى تلك السنوات، كان نصير يريد للحنه أن يتماثل مع تلك الموسيقى ليتماثل مع الأجواء التي خلقتها والتي كرستها لعقود.. غنّى شيئاً من اللحن، وكان فعلاً قريباً مما يريد بلوغه، ذلك التطريب والاسترخاء الرومانسي مع التخت الشرقي ورهافة استخدام المقامات وتطويعها لتتمازج في تلك الروح التي صبّ فيها زكريا أحمد أكثر أعمال الغناء العربي رقةً و(سلطنةً) وهياماً باستثمار فذ للطاقات الصوتية التطريبية الساحرة لأم كلثوم بشكل أساس.
كانت سهرة ممتعة حقاً، لكنني لم استطع منع نفسي، بعد أن انصرفت عن التلفزيون والبرنامج، عن التفكير بمدى جدوى ومعقولية ما يفعله موسيقي من هذا الزمان حين يعود إلى الوراء ليس افتتاناً واعجاباً حسب وإنما احتجاجاً وغضباً على موسيقى وغناء زمنه.
لكن الالتفات الى الوراء لم يعد حاجة الموسيقى والغناء حصراً، ففي الشعر والرسم والعمارة وحتى القصة والرواية كان الالتفات يتعاظم بين فترة وأخرى، بين تجربة وسواها. مثل هذا الالتفات لا يبغي الارتداد والتراجع واعلان التوبة، كما هو شأن شعراء مرحلة الإحياء في نهايات القرن التاسع عشر، وهو ليس شكلاً من اشكال النوستالجيا التي تضع الماضي، مكاناً أو زمناً، في قداسة نفسية يمكن لها أن تكون مولِّداً إبداعياً، ما دامت النوستالجيا حاجة حقيقة وما دام العمل الإبداعي استجابة طبيعية لتلك الحاجة، ولكن ذلك الالتفات الذي يتكرر في الفنون والشعر والآداب غالباً ما يتبدّى باعمال مُنجَزة هي أقرب الى المراجعة التي تريد تحرّي حلولٍ لأزمات التجديد الراهنة وذلك بالانقذاف في الماضي..
استلْ شيئاً من هذا الماضي وجرِّبْه بروح معاصرة، وكأنّ هذا الماضي ثلاجة للأعضاء الحيّة التي يخلِّفها الموتى لنعيد تجريبها كلما اعترتنا أزمة في عضو ما، مفصل ما معطوب من جسد ثقافتنا وحياتنا الراهنة.
لا بأس، في الشعر وفي الفن تبدو الحياة متواصلة، حياة الأنواع الشعرية والفنية، بخلاف الحيوات المنقطعة للشعراء والفنانين الموتى عن خَلَفهم الحي..
لكننا، نحن الأحياء، براغماتيون في استخدام أفكارنا وتفكيرنا، بخلاف سلفنا الميت المستسلم في كل شيء.
كنا ننظر إلى الماضي بوصفه متحفاً للموت وذلك حين كنا نريد الاحتجاج عليه والتمرد على سلطة تركته الموروثة، لكن ها نحن ننظر اليه الآن ، ونحن تحت وطأة أزماتنا، على أنه مخزن لأعضاء حية قابلة للاستخدام.
يعود نصير شمة باللحن إلى الشيخ زكريا، وفي الشعر تحدث مثل هذه العودة، استطيع الآن، مثلاً، أن أشير في الشعر إلى تجربتين جرى فيهما التوسّل الى الماضي من أجل النجدة.. لكن الماضي لم يكن بريئا تماماً ليسلم القياد الى شاعر معاصر فيفعل في ذلك الماضي ما يشاء. الماضي يمتلك قدرة تدميرية هائلة، هي قدرة الموت، وإلّا ما الذي فعلته محاولة شاعر مثل سليم بركات وهو يلفظ الماضي كله ليأخذ من قواميسه، حصراً، لغةً يريد بها، في ما يبدو ظاهراً، ترميم لغتنا المترهلة الموشكة على الموت؟ وما الذي فعلته تجربة شاعر آخر، من اتجاه شعري آخر، مثل حسب الشيخ جعفر، وهو يختفي في لغة ميتة ليس الآن وإنما في الزمن الماضي نفسه الذي وُضِعت فيه أمّهات القواميس العربية ليكتب (كران البور) ديوانه الشعري الغريب بدءاً من عنوانه هذا ؟
لقد بدت الكثير من محاولات الحل، حل أزمات التحديث الشعري، تورُّطا متنامياً في تلك الأزمات وتعميقاً لها، مثلما غالباً ما تنتهي محاولات تجريب (أجنحة) متعددة في كل مرة يريد فيها شاعرٌ أن يحلِّق في فضاء حريته الشعرية إلى الإخفاق في الطيران الحر. لا يمكن الاستمرار بإلقاء تبعة هذا الإخفاق على قرّاء الشعر الذين عادةً ما يُنحى عليهم باللائمة لعدم إدراكهم (عمق) تجربة الشاعر والشعر..
هناك مشكلات عضوية في الشعر الحديث، وهي مشكلات تدفع بشعراء حين لا تتضح الصوة أمامهم إلى عمل واجراءات تزيد المشاكل تفاقما. لقد بدأنا، مثلاً، نفتقد في الشعر ذلك الصفاء وتلك الروح التي تغري بالانسجام معها والإنسحار بها مقابل هيمنة اللعب، اللعب بكل شيء، بدءاً من الهزء بالحاجة الحقيقية للشاعر نفسه والإشاحة عنها وليس انتهاءً بازدراء جوهر الطبيعة الشعرية، جوهر معاني الشعر ورفعته وتساميه على العبث والفوضى.
نحن نستثمر حرياتنا بما تقتضيه المصالح لا بما تتطلبه طبيعة الشعر وطبيعة العلاقة به.. يحدث هذا في مجال التربية أيضاً، بين البنين والآباء، فالعقوق يكون أشد وطأةً حين يتشبّهُ بالوفاء، حين يستعير من الوفاء لغته بمقتضى المصلحة، مصلحة الابن العاق مع أبيه وشراهته إلى التركة، إلى الميراث، إلى اللغة المستودَعة في القواميس ونفض الغبار عنها و(استعارتها) من شعراء ماتوا من قبل شعراء أحياء.
مثل هذه الاستعارات كانت تحدث أيضاً في ثقافات أخرى، في الغرب، في لحظات الأزمات، الأزمة في الأدب والفن أو الأزمة في الحياة التي تدفع إلى الماضي، كما فعل إليوت مثلاً.. لكن العمل العضوي، كما قدمه إليوت في (الأرض الخراب)، هو غير العمل التركيبي الذي يجري معه دمج عناصر متنافرة في هجنة لا تستقيم.
حصل هذا في التشكيل أيضا، حين عمد أشهر فناني السريالية سلفادور دالي إلى المواءمة بين متطلبات التشريح الكلاسيكي وبين التداعي الحر للسريالية، فتوفَّرنا من خلاله على نموذج شعبوي للفن السريالي الذي بقي محدوداً، في تداوله، بالنسبة للآخرين من فناني السريالية.
لكنَّ الشعرَ استجاباتٌ ماهرة لمشاعر الخوف التي نتملَّص معها من الحاضر لنؤوب إلى الماضي.. كانت محاولة حسب الشيخ جعفر، في ما أفهمها، وهو ينقذف الى ماضٍ من اللغة ميتٍ وشاحب، تأتي في سياق اجراءات نفسية للتحرّر من حاضرٍ والنفي، اختيارياً، في ذلك الماضي، لكن الماضي الذي احتمى به حسب كان أكثر وحشيةً، فحصل أن أطبق الموت، موت الماضي وقاموسه ولغته، على هذا الوافد الشعري الآتي من حاضر وحشي.
كان القصد النفسي في تجربة (كران البور) أكبر من أن يفكِّر بآليات عضوية تسمح بالتعايش مع الماضي.. لم يتبرَّر الماضي عضوياً في (كران البور)، لقد بقي لغةً قديمةً طافيةً على سطوح المعاني والأشكال والتقنيات المعاصرة، فأثقل الوطءَ عليها..
كان شيئا مماثلا، ولكن بمستوى آخر، في تجربة نصير شمة لاستعادة الروح الفني لموسيقى مطالع القرن العشرين في أغنية يُراد لها أن تكون من أغاني مطالع القرن الحادي والعشرين، لكن تلك الموسيقى كانت تتقدم كما لو أن فتاةً تريد أن ترقص (السالسا) على موسيقى رياض السنباطي، بطابعها الهادئ المسترخي العميق.
إرادة الفتاة وحدها لا تكفي لإذلال السنباطي وقسره في هذه الرقصة، لذلك تعْمَد روحُ السنباطي إلى تحطيم الأغنية والرقصة والفتاة. تلك هي سلطة الموت وحصانته في مواجهة سوء الاستخدام.
لا يمكن الآن لأحد مثلي أو سواي أن يقترح على موسيقي بارع مثل نصير شمة طريقةً مُثلى لإحضار الشيخ زكريا أو السنباطي أو الموجي. نعم يحتاج الفن، فن الغناء العربي الراهن، إلى صدمات وإلى عمل جاد. لا بد من الخروج من المأزق الذي زجَّ الأغنيةَ به هذا التصادمُ الفظّ بين ثقافة الصورة وثقافة الصوت، بين زحف الرقص والاستخدام الغرائزي السطحي للجسد وتفاهات الفيديو كليب على الأغنية التي باتت هي حاصل كل هذا الخليط، وبين رفعة الموسيقى والطرب.. ربما يحاول بعض الفنانين الآن إعادة تجريب التوزيع الاوركسترالي لأغنيات مدعومة بنصوص تتوفر على حدود مقبولة من القيمة الفنية، وبألحان لا تلتفت إلى الوراء وإنما تترفّع على الانحطاط الراهن، لكن نجاح هذه الجهود قد يصطدم بفساد التسويق ومشكلاته الثقافية والأخلاقية..
في مجال الشعر، لا يمكننا أيضا اقتراح الحلول، حلول مشكلة التعامل بفائدة ايجابية مع خزين الماضي، حين نكون أمام شاعر كبير مثل حسب الشيخ جعفر، لكننا نمتلك القدرة على أن نكتشف الخلل في هذه الاستضافة.. في الفن والشعر يستحيل وضع وصفات جاهزة، كل عمل يبرِّر حاله، وكل وصفة هي نتاج تالٍ للعمل والكيفية التي يظهر بها عضوياً مؤتلِفاً وليس تركيبياً متعارضاً.. إن الاهداف والوسائل في الشعر هي تسميات لحال واحد هو القصيدة، كيف تأتي وكيف تكون.
القصيدة هي التي تقدم أهدافها ووسائلها ككيان كليِّ الوحدة غير مسبوق بنوايا مصممة من أجل مقاس ما أو هدف ما.
هذه بعض مشكلات الوجود السطحي النافر للغة القواميس في الشعر المتأخر لسليم بركات، وجود غير عضوي، لا بنيوي، وجود تزييني تدميري، وكانت إرادة الثأر من اللغة من دوافع هذه الاستضافة التي أطبقت على التجربة فأجهزت على الشعر، شعر شاعر خبير مثل سليم بركات، وهنا أعني تماماً إلحاق صفة الخبرة بالشاعر!
لا ينتج (التركيب) كلاسيكيات جديدة.. العودة إلى أي قديم لا تعني بالضرورة انتاجاً كلاسيكياً، لكن هذا لا يمنع، في حالات أخرى عضوية محتملة، من امكانية انتاج تلك الكلاسيكيات الجديدة التي قد لا تكون في وارد خاطر سليم أو حسب.
كان نصير هو الأكثر قرباً وغائية، من مثالي الشاعرين، من هدف انتاج كلاسيكيات غنائية جديدة، لكن الغناء هو نبت لحظته في الزمن، هذه اللحظة التي تكثف ايقاعات ومزاج وطبيعة الحياة في تلك اللحظة التي يحتج عليها الفنان بقناع لحظة ماضية من زمن مضى وحياة ولت.