2-2التمثيل أن تُظهر أمراً مخالفاً لما أنت عليه , فتدعو إلى أمر وأنت مؤمن بنقيضه وهو لا يكون مع الآخرين فحسب , بل يكون مع الذات أيضا , والممثل الاجتماعي يعيش حالة ازدواجية متواصلة مع نفسه قبل أن يُظهرها للآخرين ، ويتوصل ذو الوجهين بنفسه ال
2-2
التمثيل أن تُظهر أمراً مخالفاً لما أنت عليه , فتدعو إلى أمر وأنت مؤمن بنقيضه وهو لا يكون مع الآخرين فحسب , بل يكون مع الذات أيضا , والممثل الاجتماعي يعيش حالة ازدواجية متواصلة مع نفسه قبل أن يُظهرها للآخرين ، ويتوصل ذو الوجهين بنفسه الى مرحلة من الفصام تستولي على كل حركة ظاهرية وباطنية تبدر منه عن شعور وعن غير شعور .
إنه شخص يستعين بذكائه في ممارسة السلوك الإزدواجي حتى يستطيع أن ينجح في تمثيل هذا الدور ببراعة وتفوق .
الناس يتـَّقون شرَّ هذا الشخص ويتجنبونه بما أمكن لأنه في واقع الأمر يكاد يجمع بين مختلف النزعات السلبية التي ظهرت في الإنسان غير السوي , فهو أخذ شيئا من الرياء , وشيئا من السادية , وشيئا من السيكوباتية , وشيئا من المازوخية , وشيئا من الشيزوفرينيا 0 والإزدواجي يعيش كل هذه النزعات في داخله فيبلغ مرحلة متطورة إلا أنه يمارس التمثيل في كل حركة تبدر منه ، والناس يدينونه ويتصرفون معه بغاية الحذر, ويترفعون بأنفسهم على أن يصاحبوا شخصاً يفقد التوازن في سلوكه!
التمثيل وفــن التهريــــج
الإنسان دائم البحث عن وسائل مختلفة ليواجه من خلالها ما يلقاه من آلام وأحزان ونكبات ، وبذات الوقت يُحصِّن نفسه ويجعلها مهيأة لاستقبال وجهَي الحياة الحلو والمرّ.
اكتشف الإنسان فكرة التهريج ليخفف من خلالها عن المآسي التي تصيبه ، ويحيل الدمعة إلى بسمة ، حتى لو كانت بسمة مرة ، التهريج هو محاولة من إنسان شاء أن يكون مهرجاً في سبيل تحويل الدموع إلى ابتسامات .
إنها حالة إنسانية يتحد فيها الشخص المهرج بعامة الناس يتألم لآلامهم ، ويسر لمسراتهم ،
لذلك اكتسب المهرِّج شعبية كبرى في سائر المجتمعات البشرية التي نظرت إليه نظرة تنفِّس عن الآلام والنكبات .
يؤدي الممثل المهرج وظيفة اجتماعية بالغة الأهمية في تفاصيل الحياة الاجتماعية للناس عامة ، ولغة التهريج هي لغة عالمية يفهمها الناس جميعا ، ورسالة التهريج لا تلقى أي عائق لغوي ، أو فكري ، أو ثقافي لتصل إلى المتلقي.
في رأي للفيلسوف الوجودي زورن كيركغور يرى فيه أن أهمية المهرج تكمن في الدور الذي يلعبه بطريقة غير مباشرة للتخفيف من المآسي التي يعاني منها الناس .
يصوِّر الفيلسوف رأيه على شكل مقطع أدبي يقول فيه : حدث ذلك في مسرح حيث شبّت النار في أجنحته ، فخرج المهرج ليحذ ّر النظـّارة من الكارثة المحدقة بهم ، وضج الجمهور بالضحك والتصفيق استحساناً لنكتته ، وكلما زاد المهرج في تعنيفهم وتحذيرهم ، زاد الضجيج والضحك .
يتضح من هذا المقطع أهمية وجود شخص يحمل روح النكتة حتى عند وقوع الويلات والمآسي ، وهذه النكتة التي تخفف عن الناس ، وتروّح عنهم بعض الشيء ، فالتغلب على ما هو مأساوي في الحياة لا يتم إلا بوسيلتين فقط هما : الدِّين ، والسخرية كما يرى أحد الفلاسفة .
إذا نظرنا إلى مشهد مروِّع يقوم فيه المهرج بالتخفيف عن الناس من خلال إضفاء روح السخرية ، فينتابنا إحساس أن هذا الشخص المهرج يمتلك عيناً ثالثة يرى بها ما لا يراه غيره .
بناءً على هذا الاستقراء ، يمكنني القول: إن الملا نصر الدين / جحا / لم يكن أقل شأناً من الحكيم / أحيقار / من خلال أهمية وجوده في الناس ، ذلك أن الثاني كان يقول حكمة ، والأول يقول نكتة ، وكانت النكتة أحياناً تجلو في روح الحكمة لدى أحيقار ، كما كانت الحكمة تجلو أحياناً في روح النكتة لدى جحا ، ولذلك يُقال أن لكل مجتمع جحاه ، ولكل مجتمع أحيقاره .
يمكن أيضا ملاحظة سمات مشتركة بين ملامح وجـه المهرج ، وملامح وجه الفيلسوف .
لننظر إلى : الجاحظ .. توفيق الحكيم .. شوبنهور .. جحـا .. شارلي شابلن .. اسماعيل ياسين ، ولعلي أذكر أن بعض نقــاد السينما أطلق على شارلي شابلن لقب (المهرج الكوني) .
يتمتع المهرج بهذه الخصوصية في امتلاك وجه ضاحك باكي في آن معاً، فيمكن أن تضحك حــد القهقهة ، وأنت تنظر إليه ، ويمكنك أن تبكي حــد النحيب ، وأنت ترنو إلى تلك القسمات.
إن ما يُضفي على المهرج روح التهريج ، امتلاكه لهذه الخصوصية في الوجه ، فإن فقد هذه الميزة ، استعان بوجه صناعي جعله وجهاً مستعاراً له ، وهنا يحاول أن يعوّض ذلك بدقة الحركات البهلوانية ، والتلاعب بحركات الألفاظ.
يبقى فــن التهريج من الأفكار الفلسفية الكبرى التي اكتشفها الإنسان ، ويبقى متجدداً يحظى بشرائح هائلة من الناس ، وقد تفرع التهريج في عالمنا المعاصر مع ثورة التقنيات الهائلة ، فأخذ التهريج أشكالا جديدة مثل / الكاميرا الخفية / التي تعتمد على فكرة التهريج بالنسبة للمذيع الذي يعتمد في مهمته على روح التهريج .
يحتاج الإنسان إلى مَن يُضحكه كما يحتاج إلى مَن يُبكيه ، ويكفي المهرج فضلا أنه قبـِل أن يكون مهرجاً ، وقبـِل أن يلعب دور المهرج فقط ، بل أن يكونه ، وفي جميع الأحوال ، فإن الذي لا يحب الناس حباً جماً لا يتطوَّع من أجل أن يضحكهم ، في حين دموعه تتساقط في أعماقه ، أنه يبتسم عندما يرى الابتسامات ترتسم على شفاه أولئك الذين ينظرون إليه ، وهكذا فكما أنهم يستمدون ابتساماتهم من حركاته ، فإنه يستمد ابتسامته ، وكذلك حيويته من تلك الابتسامات التي تزيده تألقاً ، وتزيده بهجة ، وهو في غمرة عمله الذي هو في جوهره إسعاد الناس .
كلمة الختام
استطاع الإنسان أن يعبّر عن فنيته الروحية بقوة، كما استطاع أن يعبّر عن بروده الروحي بقـوة.
رسالة الفنون تكمن في أنها تميـِّز بين الطيب والخبيث، تقف حدّاً فاصلاً بينهما، هي رسالة الحق والجمال والمحبة.
تقول موهبة التمثيل لصاحبها بقـوة : بمقدار ما تهب الفـن وتخلص له، يهبك لآلئ الجمال الروحي، إنك مليء بالفــن.
التمثيل موهبة إنسانية ، يمكن أن يستخدمها الإنسان في مواقف عــدة ، كما يمكن له أن يغتنمها للإبداع الفني فيستطيع من خلالها تجسيد الكثير من الأدوار التي تمثل شخصيات مهمة صادفت التاريخ البشري .
موهبة التمثيل تحتاج إلى الكثير من الصقل والمتابعة حتى تنمو وتترعرع وتمنح قيمة إشراقة إبداع الفن التمثيلي .
التمثيل عملية إبداعية فائقة لا تقل شأناً عن الإبداع الأدبي ، والفكري ، والتشكيلي ، والممثل الجيد يقف إلى جوار النوابغ من علماء الفكر ، والأدب ، والفن في مهمة تكاملية لخدمة البشرية.