TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هذا الكلب يشبهني

هذا الكلب يشبهني

نشر في: 4 أكتوبر, 2013: 10:01 م

حين قضى الفنان السويسري العظيم ألبرتو جياكوميتي (1901 – 1966 ) في مشغله الباريسي ما يقارب الأربعين سنة ، حيث يعيش ويعمل ، فهو بالتأكيد قد مزج كيانه مع أعماله وأصبح جزءاً منها ، حتى أن تقشف أيامه وعتمة بعض الظروف التي مرّت عليه نرى غبارها واضحاً فوق هذه الأشباح الغريبة التي صنعتها يداه ، إلى درجة أن ملامحه ونحافته الشديدة ، أضافة إلى تجاعيد وجهه الكثيرة أصبحت كأنها بورتريت شخصي قد انتهى من العمل عليه تواً . هذا الفنان الذي يشبه أعماله بشكل غريب هو من قال ذات يوم حين كان يتحدث عن تمثال الشهير ( الكلب ) الذي نحته سنة 1951 ( هذا أنا ، رأيت نفسي ذات يوم أتسكع في الشوارع ) هذه الكلمة التي تحيلنا الى ضياع الإنسان المعاصر كما تكشف لنا جانباً أو جزءاً من حياة الفنان وتسكعه في حانات باريس وأزقتها أيام الفاقة والعوز التي مرّت عليه وما عاناه في فترة ما من عدم الاعتراف به كفنان له بصمة خالدة ستبقى إلى الأبد . إذاً حتى الكلب فيه شيء من جياكوميتي وليس أعماله الأخرى فقط .
استعدت أعمال هذا الفنان المهم والمؤثر هذه الأيام وأنا أتطلع الى عمله الكبير ( المرأة الواقفة ) في إحدى الصالات الكبيرة لمتحف الفن الحديث في مدينة روما . تظهر المرأة في هذا العمل في حالة من التأمل وهي تنظر بثبات إلى أمام بشكلها الشبحي المتآكل وكأنها هيكل عظمي خرج تواً من مقبرة قديمة . لقد نفذ الفنان عمله هذا بمادة البرونز وبحجم أكبر من الحجم الطبيعي ليعطي للعمل تأثيرا كبيرا وسطوة واضحة . كذلك نلاحظ في هذا التمثال كما في أعماله الأخرى ، كيف يتحول الأنسان على يد هذا الفنان الفذ الى شاهد على العصر بكل ما يحمله من غياب يجعلنا نتعاطف مع هذه الشخصية الشاحبة والتي تستطيل الى الأعلى وكأنها مجموعة خيوط مجدولة مع بعضها ، لتعانق الفضاء بكل ضعفها الإنساني وهي تحرك في دواخلنا تساؤلات عديدة حتى بعد أن نبتعد عنها فترة من الزمن .
التفكير في الإنسان هو الأثر الذي سيتركه في نفوسنا هذا الفنان ، هذا ما ينتابني غالباً وأنا أتطلع الى أعماله التي توصّل الى معالجتها بهذه التقنية في منتصف أربعينات القرن العشرين ، بعدما قدّم قبلها أعمالاً مثل ( القصر في الرابعة فجراً ) و ( انتهاء اللعب ) وغيرها الكثير بتقنيات مختلفة ومواد عديدة ، الى أن أخذت أعماله بالتصدع والتآكل ، ليس بالمفهوم السلبي بل لإظهار قيمة تعبيرية من داخل مادة البرونز .
أعمال هذا الفنان أقرب الى معجزة تشكيلية ، هو الذي اجترح هذه الأشكال الموغلة في نحافتها وغيابها الذي هو إشارة كبيرة لوجودية الإنسان في القرن العشرين وهو يحمل همومه ويسير في طريق مجهول لا يعرف نهايته . فنّه الكبير والمتفرد وأشكاله الموحشة التي قدمها لنا باستطالاتها وتأثيرها ، وحتى طريقة عيشه التي فيها شيء من البوهيمية والبساطة ، والفرار من كل ما هو متكلف ومادي ، كل هذا جعل الكثير من مبدعي ومفكري عصره يرتبطون معه بصداقات عميقة ، مثل الفيلسوف الوجودي سارتر والكاتب جان جينيه الذي قال له في أحد حواراتهما العميقة ما معناه ، لا أحد يربح من أعمالك هذه ، لا أنت ولا نحن ولا قاعات العرض ، الرابح الوحيد هو البرونز لأنك حمّلته بكل هذه الطاقة والإبداع وحوّلته إلى شيء فريد .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المنافذ تحقق أكثر من 2.2 تريليون دينار إيرادات جمركية في 2025

التشكيلة الرسمية لمنتخبنا الأولمبي لمواجهة عُمان ببطولة كأس الخليج

الأمم المتحدة: 316 مليون متعاطٍ للمخدرات عالمياً

القضائية تستبعد نجم الجبوري من مقاعد نينوى الانتخابية

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram