الزحمة التي نجدها في مباني الحكومة العراقية غير معقولة أبداً، وهي لا تعبر عن فسحة الديمقراطية المتاحة للناس بعد 2003 كما يدّعي البعض، إنها الفوضى غير المنتجة، وما نشاهده لدى مراجعاتنا لمؤسسة كبرى كمبنى المحافظة لا ينمُّ إلا عن إرباك وتخبط حتى بتنا نفكر حقا بأن ما يحدث من فساد وتفجيرات وإخلال بالأمن هو نتاج طبيعي لسوء إدارة واضح، لا يملك شيئاً من معايير الانضباط وقواعد الخدمة في الدولة في تسيير أمور المواطنين وإيجاد الحلول اللازمة لمعاملاتهم، صورة مخجلة حقاً تلك التي نشاهدها داخل مؤسساتنا، نتحدث عن تقديس لمبنى لأننا لسنا في سوق شعبي. الحكومة غير معنية بقداسة الأمكنة، كان بإمكانها جعل كرسي المحافظ مثلا أكثر قداسة من كرسي البابا لو أنها شرعت لذلك القوانين، لو قدمت خدماتها بصدق وإخلاص لمواطنيها .
كنتُ دخلتُ مبنى محافظة البصرة في ولاية المحافظ الاسبق المرحوم محمد مصبح الوائلي(عن حزب الفضيلة) في الفترة الواقعة بين 2005-2008 ، كان موظفو مكتبه أقل بكثير من موظفي مكتب المحافظ اليوم، وهذا عائد لطبيعة العمل آنذاك، ربما، لأن المشاريع لم تكن بهذه السعة والأعمال أقل، هكذا بحسب تصوري، كان مكتبه في أعلى صالة طويلة، تمشي خطوات كثيرة لتصل اليه، بما يعطيك شعورا بأهمية المكان والمسئول فيه، هكذا بدت لي، وفي ولاية الدكتور شلتاغ عبود الذي أعقبه أحدث الرجل تغييرا طفيفا على المشهد، لكني لم أعد أرى الكثير من الوجوه الرسمية هناك، لا بد من تغيير لطبيعة الحاشية، هكذا كما كنا نقرأ في كتب السير العربية للملوك والخلفاء، وحين تسلم الدكتور خلف عبد الصمد مقاليد المبنى الحكومي ترك كرسيه في الصالة الكبيرة ودخل غرفة صغيرة يدير شئون المحافظة منها، في إجراء عدّهُ الكثيرون تواضعاً وتقليداً لسيرة أهل البيت في قمع البهرج والخيلاء، لكن الكثير من الموظفين السابقين على عهد الدكتور شلتاغ اختفوا أيضاً، حل محلهم أناس جدد.
وهذه قضية لا تنحصر في مبنى الإدارة التنفيذية حسب فقد حصل مثله في مبنى السلطة التشريعية (مجلس المحافظة) وفي جميع مؤسسات المدينة، هناك استبدال دائم ومحو دائم أيضاً، لعل الدولة العراقية برمتها تعمل على وفق آلية الآية الكريمة (كلما دخلت أمة لعنت أختها) وهنا اللعن بمعنى التجديد ومحو الخبرة والقطيعة مع الآخر، الدولة العراقية قائمة على أساس التجديد المستمر، فلا تراكم هناك، لأن الذي عمل قبلي كان مقصّراً وأقل دراية دائما. دولة لا يوقّر موظف سابق فيها موظفا لاحقا به، نحن لا نؤرشف الخبرة، ولا تتقادم المعرفة لدينا، نحن في تجديد أبدي، ندخل المبنى أول مرة ونسمح منه آثار السنوات الأربع أو الثمان التي خلفها سابقنا فيها، حتى المداخل والمخارج نستبدلها، في كل مرة ادخل مبنى حكومي أجد متغيرا جذرياً، دولتنا جديدة حقاً، هي لا تعتمد الماضي، الماضي مرتبط بنظام صدام حسين، وكل موظف سابق لنا هو صدام آخر يقتضي استبداله.
يقول تقرير لدبلوماسي أمريكي عمل في العراق بأن البيروقراطية والروتين قوضا مشاريع الاستثمار في العراق، ولدى مراجعة بسيطة لأي دائرة حكومية بما فيها مبنى الحكومة الرسمي وفي أي حديث متقطع مع من تجدهم هناك، أو ما تستنتجه من معاينتك الشخصية تصدمك حقيقة كبرى، حقيقة تقول لن تقوم لنا قائمة ابداً، إذ من غير المعقول رؤية المئات من المراجعين وهم يجوبون أروقة ومكاتب ودهاليز وممرات المبنى هذا، الذي فقد قدسيته، وهذا ما يشاهده أي مراجع لأي مبنى رسمي رفيع. مراجعون من مختلف الطبقات يقفون طوابير على الباب هذا والطاولة تلك، هويات وباجات وتلفونات وقلائد وكارتات زيارة لا عدَّ لها، شرطة ورجال امن ونقاط تفتيش نساء ورجال، معاقون وصحبة متنفذين، القاعة ممتلئة والأخرى أيضاً، هذا يشير عليك بذلك وذاك يوصي بك عند هذا، هذا مبتعث من فلان وذاك حامل ورقة الشيخ الفلاني والناس في دوامة لا ينفك خيطها، الكل يدور ويبحث ويحاول أن ينهي معاملته بأسرع وقت وبأقل الكلف، لكن القضية لا تقف عند توقيع المحافظ أو رئيس المجلس، الدوائر المحيطة والفاصلة بينها تتسع وتتعقد وتطول، ولكل مراجع قصته التي يكملها الذي معه، وهكذا لا يعرف أحد متى ستنتهي المعاناة .
فساد وعُطل وإهمال الدوائر والمديريات الرسمية الأخرى والمتعلقة بحاجات الناس جعل من غالبية المواطنين يلجؤون إلى المبنى الكبير في حل ما تعقّد من أمور حياتهم، صار المواطن البسيط الذي تعطّل حلُّ قضيته بدائرة الماء أو الصحة أو الرعاية الاجتماعية مثلا أو غيرها مضطراً للوصول إلى مكتب المحافظ أو رئيس المجلس، ولأن الكل يخشى الكل في أي دائرة عراقية اليوم بسبب تهم الفساد التي شلت المفاصل فقد أصبحت الخشية من البت في قضية ما مرضاً وظيفياً، لذا يستخدم الموظف طريقة التحويل إلى موظف آخر وهذا (الآخر) مريض بالخشية أيضاً فيقوم بالتهميش والتحويل للآخر ثم الآخر وهكذا تتسع دائرة التعقيد ويظل المواطن المسكين أكان مقاولا أو رئيس شركة أو مراجعا بسيطاً يدور في فلك التهميش والتحويل والإنابة حتى يقضي الله أمراً. الموظف العراقي يجلس على كرسي قلق، غير مؤتمن، كرسي لا قداسة له لأنه متحرك دائم.
في قداسة الكرسي الأول
[post-views]
نشر في: 5 أكتوبر, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...