TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > دُمية هنريك إبسن

دُمية هنريك إبسن

نشر في: 6 أكتوبر, 2013: 10:01 م

حين غادرت مسرح Duke of Yourk في لندن، بعد مشاهدة مسرحية إبسن "بيت الدمية"، شعرت بشيء من الذنب يمس مشاعري الخفية كرجل. ذنبٌ غير مُعلن بالتأكيد. فالمسرحية تتحدث عن لورا هيلمر وتورفالد اللذين كانا يعتقدان أنهما في غمرة السعادة، وعلى وشك دخول مرحلة جديدة بعد تعيين الزوج مديراً للبنك الذي يعمل فيه. ولأن لورا بما تنطوي عليه من نوايا حسنة، ورغبة بالعطاء والفداء أيضاً، كانت في ما مضى من أيام قد استدانت سراً مبلغاً يكفي لتغطية تكاليف سفر زوجها، وقد كان مريضاً، بصحبة العائلة إلى إيطاليا للاستشفاء. الدراما تبدأ حين يظهر الدائن محاولاً ابتزازها، بفعل توقيع زائف باسم أبيها كانت قد اضطرت إليه. وحين يعرف الزوج تنقلب مشاعرُ الرعاية وتصرفاتها لديه إلى غضب كاسح مؤذ، يدفع لورا المحاصَرة إلى أن تستيقظ: لم تكن في عطائها وأثرتها إذاً غير دمية حلوة تحت وصاية زوجها، وأبيها من قبله. وإذا ما تجاوزت حدودَ الدمية الحلوة، كما حدث الآن، إلى فضاء الإنسان السجين في داخلها، حتى يحلّ عليها العقاب. وفي مشهد أخير بالغ التأثير، تقرر لورا أنها لا تصلح زوجة ولا أماً لأولادها الثلاثة حتى تكون هي ذاتها، لا دمية تحركها أصابع الآخر. تقرر المغادرة. تخرج من باب البيت، بعد أن توصده بعنف خلفها. ولم يبق لنا نحن الجمهور، في الدقائق الأخيرة، إلا مواجهة الباب المغلق وحده. وفي رؤوسنا دويّ صوت لورا الذي أشعرني بالذنب، كما قلت، حين غادرت.
هذا الدويُّ الذي خلفه المشهد الأخير، ولعله أبلغ مشهد عرفته الدراما الغربية، كان قد صاحب مسرحية "بيت الدمية" من أول أيام عرضها عام 1879 في كوبنهاغن. وبفعله أثارت لدى الناس، والصحافة، والمؤسسة الرسمية ضجة استنكار كبيرة. حتى أن بلدية ستوكهولم كانت تُلحق كل دعواتها بعبارة: "المطلوب من المدعو أن لا ترد عبارة بيت الدمية لأبسن على لسانه".
ولا يكمن في هذه الضجة سرُّ دوام هذه المسرحية في النشر والعرض المسرحي حتى اليوم. إنما يكمن في المعالجة الحساسة لكينونة المرأة في مجتمع، عائلة، أو زواج يحكمه الرجل. ولعلي أرى أن إبسن في معالجته قد ألقى أسئلة مواربة وغير مباشرة للمستقبل، عن كينونة المرأة في الحياة الغربية، والعالم المتقدم اليوم. هذا العالم الذي يرى أنه قد حقق، بعد نضال طويل ومرير، مستوى من المساواة عادلة بين الرجل والمرأة. لأن الرجل ذا السيادة، وبفعل عوامل جديدة من صنعه طبعاً، فضّل أن يتخفى وراء قوى أكثر قدرة على الهيمنة والاستحواذ على المرأة. لا بصورة مباشرة كما كان يفعل من قبل، بل بصورة تتمكن من المرأة من داخلها، عبر قوى مؤثرة تجعلها تُسهم، وكأن عن إرادة، في خلق ما هي عليه. لا دمية البيت في محيط العائلة المحدود، بل دمية العالم في حياة غير محدودة.
المرأة اليوم انتقلت ككينونة من طرف المساواة العادلة مع الرجل إلى طرف أصبحت فيه أيقونة جنسية. لك أن ترصد وسائل الإعلام من سينما، تلفزيون، راديو، كتب، صحف، مجلات، نشاطات ترفيه...الخ، وكذلك وسائل السوق الاستهلاكي بالغ السطوة، لتجد هذه الصورة الدمية، التي لا تخضع لغير معيار الإثارة الحسية، ومعيار الشكل الذي تظهر عليه. والمريع في الأمر أن هذه الوسائل جميعها، وبسحر التأثير السيكولوجي المدروس، جعلت المرأة تشعر وتقتنع وكأن صورتها هذه ليست إلا وليدة إرادتها هي، ورغبتها هي.
إخراج كاري كراكنيل، وتمثيل هاتاي موراهان كانا أكثر من رائعين. واستجابة النقاد متحمسة وإيجابية، مع أن هذه المسرحية لم تنقطع عن لندن طيلة السنوات. وللعلم فإن السينما قد استجابت لعمل إبسن هذا، شأن العديد من أعماله، مرات ومرات، منذ 1923 (الفيلم الألماني الصامت "نورا"). هناك فيلمان عام 1973 (واحد لجوزيف لوزي، والآخر لباتريك غارلاند)، وفيلم إيراني عام 1993 باسم "سارة"، وآخر هندي 1955. إلى جانب عدد من الأفلام التلفزيونية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram