TOP

جريدة المدى > عام > المفكــر العــراقـيّ د. عبد الجبّار الرفاعيّ..حــركيّــة القــراءة وأسئلـــة التحديـــث

المفكــر العــراقـيّ د. عبد الجبّار الرفاعيّ..حــركيّــة القــراءة وأسئلـــة التحديـــث

نشر في: 7 أكتوبر, 2013: 10:01 م

-1- في البدء كان الحرفلا أحبذ التوغل في الدرس كثيرًا، بخاصة والحديث عن شخصية عراقيّة، لها حضورها ومنجزها الثقافي والمعرفي بين القرّاء والطلبة، لا لكوني لست من طلاب الدرس ومتعاطيه. لكن، أطمح لأن تكون شهادتي للمفكر د. عبد الجبار الرفاعي، مساحة ثقافية و

-1-
في البدء كان الحرف
لا أحبذ التوغل في الدرس كثيرًا، بخاصة والحديث عن شخصية عراقيّة، لها حضورها ومنجزها الثقافي والمعرفي بين القرّاء والطلبة، لا لكوني لست من طلاب الدرس ومتعاطيه. لكن، أطمح لأن تكون شهادتي للمفكر د. عبد الجبار الرفاعي، مساحة ثقافية وواقعية. تغادر العقل الأكاديمي، وتحاول الاقتراب من الرجل ومشروعه كما عرفته، للمرة الأولى بعد عام 2003، حيث بدأت إصداراته الفكرية، تتوافد إلى العراق، ففي الفكر / الشعر شيء لا يحيطه الدرس كما قيل قديمًا.
أصبح من العرف الثقافي الذهاب إلى شارع المتنبي في العاصمة بغداد، لنبتاع بعض الكتب. وقد أخبرني صديقي ذات يوم، أنه وجد مادةً ثقافية دسمة. تشمل بين صفحاتها على تنوع فكري عميق ومتجدد، يرتكز بين ضفتي الإبداع: التراث والحداثة، ويؤسس لقراءة مغايرة، لطالما بحثت عنها محاولًا التعرف إلى الآخر المختلف، لتكوين رؤية حقيقية، تتجاوز السياق، أو عقلية البوليس الثقافي السائد، باعتبارنا قادمين من ماضٍ حزبي شمولي طارد لحرية الكتاب والفضائية والصحف، والتعدد الحزبي.
اقتنيت نسخة من المجلة آنذاك، لا أتذكر العنوان الرئيس الذي استوعبه العدد . أعني، هنا مجلة: (قضايا إسلامية معاصرة)، كُتبَ في وسط الصفحة الأولى، رئيس التحرير: د. عبد الجبار الرفاعي،  ربّما زادَ اللقب من فضوليّ المعرفي أكثر، لكونه يتقاسم معي نسبًا مكانيًا، فكلانا من مدينة واحدة، تنام هادئة على كتف نهر الغراف في الجنوب العراقيّ، والكلام هنا على قضاء الرفاعي أحد أقضية محافظة ذي قار. هكذا، بدأت علاقتي الثقافية/ المكانية/ الورقية، بالرجل ومشروعه الفكري، تنمو وتزداد ثقةً، بما تقدمه المجلة في كلّ عدد من بحوث لكُتاب من البلدان العربيّة والغربية. فصرتُ أتابع كلّ الأعداد التي جاءت بثوب جديد، ومائدة فكرية غنية، تُغري القارئ بأسلوبها، ودقة اختيارها لأسماء الباحثين الذين حُرمنا من قراءتهم، واستيعاب مجالهم الثقافي، لأسباب ليست بالخفية حالت دون ذلك.

-2-
خارج المكان
تمثّل الشخصية الإنسانية نواتج من العادات والتقاليد والأعراف والثقافة والمكان الذي تتشكّل في فضائه الهُوية النهائية للمبدع ومشروعه، فيترك المكان انعكاساته على تكوين الوعي. تأسيسًا على هذا الفهم يمكن القول إنّ: كان لجذور د. عبد الجبار الرفاعي الجنوبيّة، وما يحمله من حاضنة لها حضورها العميق في الثقافة العراقية، ودخوله فضاء البحث الجاد، ودراسة العلوم الإسلامية، كلّ هذه العوامل أثرت في توجهه العقلي الواضح عبر مشروعه الفكري الطويل.
لم يكن خروج الدكتور عبد الجبار الرفاعي من العراق، بسبب ما تعرضت له الحياة بعامة، والثقافية بخاصة، أثناء حكومة البعث آنذاك، خروجًا كلاسيكيًا، وانفصالًا معرفيًا، وقطيعةً بين ثنائيات صارت رائجة بعد 2003  وعي الخارج والداخل، مثقفو الداخل ومثقفو الخارج، أحزاب الخارج وأحزاب الداخل، بل عملَ على استثمار خروجه بمثابرته وقدرته وإصراراه على توظيف في الاطلاع على تجارب فكرية: عربية وغير عربية كثيرة، ساهمت بوضوح في توسيع أفقه التنويري الذي سعى إليه منذ تكوينه الأوّل حيث كان طالبًا آنذاك، الأمر ظهر واضحًا عبر مؤلفاته التي تجاوزت أربعين كتابًا.
ما يميز علاقة المفكر عبد الجبار الرفاعي بالمكان الأمّ، تواصله الإبداعي بدرجة أساس، والتحليق فوق التفاصيل، وهذا ما ساعده على الانفصال عن الأشياء، ومن ثم إعادة إنتاجها بطريقة مختلفة، والكتابة عنها بعين ناقدة متجردة وبرؤية ثاقبة. فكانت قراءة خارج تضرب السياق في المؤسسة التعليمية: الدينية والرسمية،  لفتح آفاق جديدة، وأسئلة تُصنف في بنك المحظورات في بلداننا العربية والإسلامية: سؤال الهُوية، وسؤال الوطن والمواطنة، وفلسفة الدين وتحديثه، والآخر المختلف وقراءته، والتواصل والتنوير، والنهضة وشروطها، وغيرها.

-3-
كاريزما الحضور
للدكتور عبد الجبار الرفاعي مجموعة من المؤلفات المطبوعة، أذكر منها: نظرات في تزكية النفس 1985، حركة القومية العربية: دراسة نقدية في بواعثها الأيديولوجية 1985، متابعات ثقافية: مراجعات وقراءات نقدية في الثقافة الإسلامية 1993، موسوعة مصادر النظام الإسلامي/ في عشرة مجلدات 1996، مناهج التجديد 2000، علم الكلام الجديد وفلسفة الدين 2002، مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد 2005، تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية 2010 ، إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين 2012. إضافةً إلى تأسيس مركز فلسفة الدين في العاصمة بغداد في 2003 ، بعد عودته إلى وطنه. تصدر عنه سلسلة كُتب ثقافة التسامح التي وصلت الآن إلى 12 كتابًا، لمؤلفين من دول مختلفة.
إن المسح الثقافي لهذه العنوانات التي سردتها، تبيّن أنّ بنية مشروع الرفاعي الفكري، يعتمد على جانبين: مدّ جسور القراءة بين الحديث والقديم، لتقليص الفجوة الثقافية بينهما، والعمل على استدعاء القديم لتوظيفه في فضاء إنتاج معنى الحاضر.
وهو بهذا، يفيد من التراث العربي والغربي ومناهجه في التحليل، والاستنتاج والمقاربة، للوصول إلى رؤية تحمل بصمته الشخصية، تُنسب إليه في التوليف بين عناصر الخطابات التي يشتغل عليها. ومن جهة ثانية، إصراره المعرفي على الذهاب بلا تأويلات مسبقة إلى الآخر المختلف: دينيًا وثقافيًا واجتماعيًا، متجردًا من الرواسب التي تعيق القارئ في الوصول إلى هدفه العلمي والأكاديمي. ليقدم الآخر بين يدي التأويل، فعلًا ثقافيًا، بعيدًا عن منطق الفعل ورد الفعل.

-4-
ثنائيات/ أضداد
ثمة فضاءان يتداخلان في تشكيل بنية العقل العربي،  فأصبحنا نشهد حالة من صراع الثنائيات الضدّية: الشرق الغرب، والقديم والجديد، والداخل والخارج، والثقافي والسياسي، التسامح والقطيعة، الــ (هم) و الــ ( نحن)، الديني والدنيوي. لقد حاول مشروع الرفاعي الفكري، إقامة منطقة توازن بين ما هو ديني ودنيوي، بين الإلهي والبشري، من خلال إثارة الأسئلة، عبر استغلاله وتركيزه على ثيمة التسامح بصورة واعية و ستراتيجية فكرية مدروسة، ومن ثم العمل على ترحيل هذه الثيمة إلى فضاءات أكاديمية وعمليّة، باعتباره مفكرًا حركيًّا، لا سكونيًّا،  مثقفًا عضويًّا فاعلًا في محيطه الثقافي، الأكاديمي والاجتماعي. فهو أستاذ دراسات عليا للفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه والفقه. وهو في الوقت نفسه يرأس تحرير مجلة: قضايا إسلامية معاصرة، منذ عام 1997. ومستشار تحرير لكثير من الدوريات في بغداد وبيروت. بدا ذلك واضحًا عبر الدراسات الأكاديمية التي قدّمها ويشرف عليها، مشاركته المستمرة في الندوات الفكرية في دول عربية وغير عربية عديدة. وكتاباته المستمرة في الصحف والمجلات العراقيّة والعربيّة.
إن المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي واحد من المفكرين العرب، الذين عملوا في مشروعهم الفكري والاكاديمي الغني بإشكالاته على التأسيس بشكل فعّال وجدي، لعقلية التسامح بين الأديان والمذاهب، من أجل الذهاب بالمجتمع العربي إلى فضاء الدولة والمواطنة التي تحترم قناعات الجميع، وهو بهذا يقدم رؤية لتنوير الفكر السياسي للخروج من أزمته التي باتت واضحة في بلدان عربية كثيرة: مصر والعراق وتونس وليبيا، ولم يحاول التماهي مع ما تطرحه المؤسسة الرسمية، أو الذوبان فيه، بل اجتهد بتقديم الحلول التي وصل إليها عبر مسيرته الفكرية الطويلة، على اعتبار أنّ السياسي جزء من الثقافي. لقد نجح عبد الجبار الرفاعي في إعادة تأثيث صورة المثقف الحرّ، بعد أن فقدنا  الكثير من ملامح هذه الصورة عراقيًا وعربيًا.

-5-
التحديث
لمسألة التحديث في مشروع  عبد الجبار الرفاعي الفكري مساحة كبيرة انعكست على مؤلفاته وسلوكه مثقفًا تنويرياً يؤمن له رؤيته الخاصة خارج المؤسسة الرسمية. وسعيًا منه لممارسة التحديث الفكري في محيطه، فقد عمل على إصدار سلسلة تحمل عنوان: تحديث الفكر الديني التي تصدر عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ويشرف عليها بنفسه، فصَدرَ عنها مؤخرًا كتاب بعنوان: قوة الدين في المجال العام، والكتاب عبارة عن محاضرات ونقاشات أكاديمية لأربعة مفكرين عالميين: يورغن هابرماس: أستاذ وعالم اجتماع ألماني، و جوديث بتلر: أستاذ البلاغة والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا.  و كورنيل ويست: أستاذ في جامعة برنستون. وتشارلس تيلر: فيلسوف وأستاذ كندي في العلوم السياسية. ترجمة: فلاح رحيم. وقدمه له: إدواردو منديتا، وجوناثان فانانتويربن. والسلسلة مستمرة لكتب مهمة قادمة كجزء من تزويد المكتبة العربية بمباحث مهمة لأسماء كبيرة، فهو القارئ العابر لمحددات ضيقة، المتحرر من " من سطوة التراث لكن هذا التحرر ليس بمعنى الخروج على الدين أو الخروج من الدين أو التحلل من التدين والتبجح الزائف بما يجرح الضمير الديني للناس، مثلما يفعل بعض المتنطعين المراهقين، تعلمت من التراث والواقع أن الدين أبدي في الحياة البشرية، الإنسان كائن متدين وأن نزعة التدين، كما أعيشها ، تمثل لدي ظمأ أنطولوجياً لا يروى إلا من خلال التواصل مع المطلق" والكلام الأخير له.

-6-
إضاءة
تأتي قيمة أي مفكر في العالم، من خلال ما يتركه من أسئلة معرفية وثقافية، تحرك المياه الراكدة، وتفتح الأبواب للباحثين من بعده، فالأسئلة وإنّ كانت بسيطة تبقى أهم من الأجوبة الجاهزة، وهذا ما نحتاجه في العراق والبلدان العربية في ظروف استثنائية تعيشها منطقتنا على أكثر من اتجاه فكري.  احتفي بالمفكر الدكتور عبد الجبار اليوم: أستاذًا وأخًا كريمًا، ومشروعًا فكريًا أصيلًا، وقارئًا عميقًا للتراث بعقلية تنويرية، استوعبت الثنائيات وتجاوزها، وفكرًا حقيقيًا حاول ويحاول جادًا في تجربته الغنية إنقاذ ما تبقى من نزعة إنسانية في ذواتنا، ونصًا مفتوحًا على فضاءات كثيرة، هكذا أقرأه، وللنصوص تأويلات بعدد القارئين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram