(1)
كثيرة هي الجراحات التي يلجأ الإنسان للتقفيل عليها من باب الحيل الدفاعية تجنبا للشعور بالأسى. الغربة واحدة من تلك الجراحات التي يكبتها الغريب في طيات لا شعوره رغم أنها ترافقه في كل خطوة يخطوها وفي كل ثانية يعيشها.
أعتبر نفسي محظوظا، بعض الشيء، لأن منفاي بدأ ببريطانيا التي يندر أن تجد في أهلها من يعاملك على انك غريب. مع ذلك لن أنسى وخزة ألم أشعرني بها مسؤول الجوازات في مطار هيثرو اللندني ذات يوم. كان ذلك في صيف العام 1986 حين عدت من سفرة إلى إسبانيا معتمدا على جواز سفر اللجوء الأزرق. ظننت لأني أحمل وثيقة لجوء بريطانية سأعامل مثل البريطانيين، لذا اصطففت في طابور القادمين من أهل البلد. سلمت الجواز فرماه علي المسؤول قائلا اذهب إلى طابور مواطني الدول الأجنبية. لماذا ووثيقتي بريطانية؟ رد علي بلهجة لا تخلو من غضب: إنك لاجئ واللاجئ بلا وطن stateless. لم تصادفني طعنة روحية أقسى منها.
سافرت إلى، وعشت في، أكثر من بلد عربي فلم أجد بلدا لم يشعرني بغربتي، خاصة على صعيد التعامل الرسمي في المطارات والنقاط الحدودية. أما على صعيد الناس، فالمصريون هم الوحيدون الذين أنسى اني غريب بينهم. هناك بلدان تضع لوحات في بعض الدوائر مكتوب عليها "خاص بالمواطنين". لا ألومهم لأنه بيتهم وليلعبوا به كيفما شاءوا.
الحالة الوحيدة التي تشعرني بغربتي في مصر عندما يجمعني لقاء عام بمثقفيها. لا أقصد التعامل الإنساني فهم في هذا مثل شعبهم ألفاظهم طيبة ولسانهم عسل. لكن المشكلة عندي وليست عندهم لأني تنتابني غربة روحية حين أستمع إليهم يمدحون بعضهم بعضا. تقليد يعزّ أو يندر وجوده جدا بين كتابنا ومثقفينا العراقيين.
وما دمت قد تحدثت عن بريطانيا اذكر اني كتبت في اول التسعينات مقالا من حلقتين عن مظفر النواب وشعره الشعبي نشرته في جريدة المؤتمر المعارضة آنذاك. بعد نشره التقيت الفنان التشكيلي كاظم خليفة الذي أبدى رأيا موضوعيا بما كتبته. سألني بعد ان انتهى الحوار: أتعرف ما الذي أعجبني بالمقال أساسا؟ قل يا أبا يوسف. أجابني: انه أول مقال قرأته لشاعر عراقي يتحدث عن شاعر عراقي أيضا وبه سيل متدفق من المحبة.
حقا ما كنت أتصور ان ذلك غريب بل يجب ان يبقى الحب نسغا أخضر يغذي كل ما نكتبه عن عن بعضنا. لكن، وبعد مرور الأيام ثم السنين، ثم مساء الخميس الفائت، حيث كنت مدعواً لحضور أمسية ثقافية أقامها الصالون الثقافي العربي الذي تنظمه ممثليتنا العراقية لدى جامعة الدول العربية وكنت فيها غريبا بحق، قلت: اشهد يا ابن خليفة إنك صادق.
شيء عن رباط الكلام يأتيكم غدا، إن كفانا الله وإياكم شر المفخخات.
غريبة الروح
[post-views]
نشر في: 7 أكتوبر, 2013: 10:01 م