كلما رحل عقلٌ مِن عقولِ العِراق، أو مبدعٌ مِن مبدعيه في شتى المجالات، يهيمن هاجس التعويض، مَن يحل محله. فنخل البصرة ما وصلنا مِن عهد سومر وأكد، إلا ما أن تذوي نخلة حتى تغرس في حفرتها فسيلة، فيأخذك العجب مِن أرض تتحمل تشابك الجذور لآلاف السِّنين. كان
كلما رحل عقلٌ مِن عقولِ العِراق، أو مبدعٌ مِن مبدعيه في شتى المجالات، يهيمن هاجس التعويض، مَن يحل محله. فنخل البصرة ما وصلنا مِن عهد سومر وأكد، إلا ما أن تذوي نخلة حتى تغرس في حفرتها فسيلة، فيأخذك العجب مِن أرض تتحمل تشابك الجذور لآلاف السِّنين. كان أحد أسماء البصرة قديماً "تدمر"، وتعني أرض النَّخيل (معجم الكتاب المقدس). فعندما يرحل عالم أو مؤرخ أو أديب أو شاعر أو موسيقي أو مغنٍ أجد الظَّرف عقيماً لا يغرس بديلاً له، والسَّبب أن الأجواء طاردة لا جاذبة للعلوم والفنون، حتى مفردة الثَّقافة تغيرت والتحمت بالتدين الشَّعبي، بل التحمت بالخرافة التحاماً فظيعاً.
ليس معنى هذاأن الأرض خلت مِن بقيةٍ، أو مِن شابات وشبان يحاولون الحفر في الصخور، بلاد تاهت في متاهات لا نهايات لها. فعندما تصلني رسالةٌأقرأ فيها سطوراً متماسكة وتعابيرَ واضحةً أسأل مرسلتها أو مرسلها: أين مكانكم مِن الأرض، أتنفس الصُّعداء عندما يُقال: بغداد!غير أن هؤلاء ما أن يجدوا الفرصة السَّانحة يفتقدون الصَّبر على التَّحمل، وهم يرون أنفسهم مشاريع قتل وإهمال، لأنهم يندفعون عكس التَّيار، ومعلوم أن التَّيار الجارف بيده الزَّرع والضرعِ. ربَّما هؤلاء مستغربون ممَن أتى مِن بلاد عالية التحضر والتمدن، وتصافحون مع الخرافة بهذه الحميمية،لكن مَن عاش مع هذه الكائنات، في زمن تطلعها إلى السُّلطة، لا يستغرب مِن هذه المتاهة.
قرأت أول مِن أمس نبأ رحيل سادن الفلسفة العراقي حسام الدِّين الآلوسي (1936-2013) الباحث والمؤلف والأستاذفي الفلسفة وعميد كليتها. نعم الموت حق ولا مفرَّ منه، وإذا قابلنا موت الآلوسي بمَن قُتل واُختطف واغتيل وقُطع رأسه مِن الأساتذة يهون عليه رحيله، تصوروا وصل الأمر إلى إنشاد بيت أبي الفرج محمد الوأواء (ت 370 هـ): "هم يحسدوني على موتي فوا أسفي/ حتى على الموت لا أخلو مِن الحسدِ"(الثَّعالبي، خاص الخاص). ومطلعها البيت الآسر: "وأمطرت لؤلؤاً مِن نرجسٍ وسقت/ ورداً وعضت على العناب بالبردِ"(يتوهم البعض أنها مِن شعر الوليد بن يزيد بن عبد الملك، والبعض الآخر ينسبها ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان/ وهي، حسب الثَّعالبي، للشاعر الوأواء). حتى صار الموت رقوداً في المستشفى أو الدَّار طموحاً، والسبب لأنه يبقي جنازة يحملها المشيعيون، فمئات مِن التوابيت التي حُملت كانت رمزية فارغة.
الدكتور الآلوسي المولود بمدينة تكريت (1936) تدرج في دراسته وعلمه وتجربته، تعلمَ الفلسفة بجامعة بغداد، وتخرج منها العام 1956، بعدها عُين مدرساً في المدارس الثَّانوية بتكريت وكربلاء وغيرهما مِن بلدان العِراق. ثم أكمل الدراسة العليا بجامعة كيمبردج- بريطانيا، وعاد إلى بلده، ليحتل موقعه في مجاله، مثلما كان الدَّارسون يبعثونويعودون، ليس مثل أحوال التسعينيات إلى يومنا هذا يذهب إلى بعثة وفي باله فكرة اللاعودة، فـ "ليس يُلامُ هاربٌ مِن حَتْفه"(الميداني، مجمع الأمثال).
لقد شجعنا حسام الدِّين الآلوسي على كسر الحاجز بين الفلسفة وعِلم الكلام،في كتابه "حوار بين الفلاسفة والمتكلمين"(1967). صحيح أن المؤلف والمحقق البير نصري نادر قد صنف كتاباً تحت عنوان "فلسفة المعتزلة" أو "فلاسفة الإسلام الأسبقين" (مصر 1950 )، وواضح مِن العنوان والمحتوى أيضاً أن المعتزلة، وهم كما جرت العادة، يُسمون بالمتكلمين، اعتبر فكرهم ومقالاتهم فلسفة، لكن المتكلمين ليس المعتزلة حسب.
أما الآلوسي فقد حاول كسر الحاجز، مثلما تقدم، بين الفيلسوف والمتكلم على العموم لا الخصوص، وله حججه، ومنها قول: "إنني أُريد أن أُقدم بهذا البحث مثلاً واضحاً يُقنع الذين يأخذون علم الكلام على أنه بعيد كلُّ البُعد عن الفلسفة عموماً، والفلسفة الإسلامية خصوصاً، وأنه ليس إلا أقوال متفرقة لتفسير آية أو شرح حديث، وأنه مقطوع الجذور بالفكر الفلسفي العالمي قبله وخصوصاً اليوناني".
وأردف قائلاً: "أقول إنني أُريد أن أُقدم بهذا البحث مثلاً واضحاً يقنع مَن يذهب هذا المذهب، بأنه على خظ كبير مِن الخطأ. لقد تعودنا أن نضع ابن سينا والآخرين مِن فلاسفتنا في عداد الفلاسفة، وأن نضع الفكر الكلامي في خانة أخرى نحرص على أن نتجنب وصفها بالفلسفة، وسيبين هذا البحث (يقصد كتابه المذكور) أن هذا الفكر السينائي والفارابي، وعلى العموم الفكر الفلسفي الإسلامي لم يستطع أن يكون فكراً أرسطياً ولا فكراً إفلاطونياً ولا فكراً مادياً طبيعياً في كلِّ الحلول التي قدمها لمشكلة الحدوث والقِدم"(حوار بين الفلاسفة والمتكلمين).
لا أقدم هنا قراءة لكتاب أستاذ الفلسفة حسام الدِّين الآلوسي، بقدر ما أُنبه إلى فكرته في تشابك الكلام والفلسفة، هذا وفي الكتاب مادة غزيرة عن حوار أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) مع الفلاسفة، وهو بهذا المعنى عده مِن المتكلمين وبالتَّالي مِن الفلاسفة، مِن دون تصريح، وهذا رأي قديم لعلَّ أول مَن قاله ابن تيمية (ت 728 هـ): «شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر»(مجموع الفتاوى)، والقصد في كتابيه "تهافت الفلاسفة" و"مقاصد الفلاسفة".
لقد زان الآلوسي المكتبة بنخبة مِن المؤلفات في مجال الفلسفة والفِكر، فمِن غير "حوار الفلاسفة والمتكلمين" له: "مِن الميثيولوجيا إلى الفلسفة (1973)، "التطور والنّسبية في الأخلاق"(1983)، "محاضرات في الفلسفة الإسلامية"(1992) ومؤلفات أُخر.
أحسب أمثال الدكتور حسام الدِّين الآلوسي بقية الكبار، أتاحت لهم ظروف العِراق، في عقود الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينات، آفاق التمسك بالعقل كخيار، العقل الذي واجه هزيمةً كبرى، ولم أكن قريباً مِن الآلوسي كي ألاحظ آثار الهزيمة عليه، ولا أعلم أين وضع الفيلسوف قدمه في هذه الشَّقشقةالطَّائفية، مِن المؤكد اختار الاكتئاب والإنزواء، ولمحمد مهدي الجواهري (ت 1997) في فيلسوف مِن نوع آخر: "وللكآبة أنواع وأفجعها/ أن تبصرَ الفيلسوفَ الحرَّ مكتئبا"(قف بالمعرة 1944)، ولابد أن سادن الفلسفةرحل مكتئباً. أطال الله بعمر الباقين ... بقية النَّاس.
جميع التعليقات 2
د. حسن مجيد العبيدي
عزيزي د. رشيد الخيون، شكراً على مقالتك الرائعة عن أستاذنا الآلوسي، وما كتبته ينم عن دراية تامة بمنتج الآلوسي الفلسفي الكبير، وسيبقى هذا الفيلسوف أحد شواغل الفكر العراقي المعاصر لما كتب وما ألف وما نظر وما نقد وما حقق وما....، فهو مدرسة فلسفية بحق، لا يختل
د.سلام هاشم حافظ
تحياتي ولا تعليق لي على ما كتبه الاستاذ الخيون سوى ان الصورةالمرفقة بالمقال هي للراحل الكبير عناد غزوان وليس للعلامة الالوسي .مع خالص تقديري