 بغداد / المدىأضحى الاستجواب الذي يمارسه رجال الشرطة والمحققون علماً حقيقياً، لا يقوم على تعذيب الشخص لانتزاع الاعترافات منه، بل يقوم على التواصل الإيجابي – الماكر بالطبع- مع الشخص لتحصيل المعلومات منه 0 وتلك في حد ذاتها خطوة كبيرة بالرغم من ك

 بغداد / المدى

أضحى الاستجواب الذي يمارسه رجال الشرطة والمحققون علماً حقيقياً، لا يقوم على تعذيب الشخص لانتزاع الاعترافات منه، بل يقوم على التواصل الإيجابي – الماكر بالطبع- مع الشخص لتحصيل المعلومات منه 0 وتلك في حد ذاتها خطوة كبيرة بالرغم من كل التحفظات 0 فيها يتحول الاستجواب من كونه احدى الممارسات البوليسية العنيفة التي تدخل ضمن نطاق العنف ، ليصبح ممارسة علمية تدخل ضمن نطاق العلم، ويتحول من كونه مهارة بوليسية ليصبح مهارة أتصالية0
لقد تطور علم الاستجواب وتبلور لدى أجهزة المباحث والاستخبارات وأجهزة مكافحة المخدرات 0 فالقائمون على الاستجواب في هذه الأمكنة تعلموا كيف يديرون التحقيقات مع المتهمين والخاضعين للتحقيقات 0 وهم يطلقون على الاستجواب ممارسة (الرقص) لأن فيه كثيًراً من المداورة والمحاورة والالتفاف حول الحقائق 0 وبطول ممارستهم لهذا الرقص أضحوا خبراء في كشف الكذب0
العجيب أن أغلب خبراء علم الاستجواب أصبحوا الآن يرفضون دخول غرفة التحقيقات 0 بل يكتفون بمشاهدة ما يحدث بين المحقق القائم بالاستجواب والشخص الخاضع للاستجواب عبر الزجاج المموه ، ممسكين بقلم وورقة يدونون عليها ملاحظاتهم فور رصدهم لها0 ومن خلال هذه العملية يتمكنون من استقراء معلومات مهمة جداً ، يعجز عن استخراجها القائمون بالتحقيق داخل الغرفة0
يقول أحد هؤلاء الخبراء:(رصدت مئات الاستجوابات، حتى اكتسبت مهارة كشف الكذب واستقراء المعلومات المخفية بين السطور 0 وصار الاستجواب بالنسبة لي علماً وليس مجرد عمل 0 لدرجة أني شيئاً فشيئاً وجدت أن حبي لعلم الاستجواب يتسلل إلى حياتي اليومية العادية0 ولا أقصد هنا أني أصبحت أتعامل مع المتهمين والخاضعين للاستجواب كما لو كانوا أناسا عاديين0
فلم تعد المسألة بالنسبة لي تحقيقات جنائية بل تحولت إلى ممارسة علمية منزهة عن العنف أو التحيز)0
ومع انتقال الاستجواب من العنف إلى العلم ، أصبح إحدى مهارات الاتصال،  وليس إحدى مهارات الاصطدام0 وهكذا تحول من المجال البوليسي إلى المجال الاجتماعي 0 ولا غرو ،فالكذب  ليس فقط من شيم المتهمين ، ولكنه إحدى الممارسات الاجتماعية التي لا يمكن نكرانها0 ويضفي البشر عليه يوما بعد يوم ألواناً رمادية جديدة لتزيينه وتقبله، ليتوسط المسافة المتصلة بين اللون الأبيض والأسود0 لذا أضحى لزاماً على من يريد النجاح في حياته الاجتماعية أن يتقن الاستجواب وكشف الكذب ، ليؤمن نفسه ومصالحه ، ضد هذه الممارسات الاجتماعية والرمادية 0 فالغرض من عملية الكذب هو خدمة مصلحة الكاذب على حساب مصلحتك أنت 0 فإذا كنت تعف عن أن تكون أنت الكاذب الرابح ، فحصن نفسك ضد أن تكون الخاسر المكذوب عليه 0 وحصانتك تكمن في تعلم علم الاستجواب وطرق كشف الكذب 0
إن كل ما يفعله جهاز كشف الكذب هو قياس التوتر الذي يعتري الشخص عند قيامه بالكذب 0 إذاً فالتوتر هو الكاشف الأساسي للكذب 0 فالشخص الذي يكذب يكون في حالة توتر غير طبيعي 0 فانخراط الشخص في الكذب يجعل ذهنه يبذل جهداً كبيراً في تفكيك وتركيب الأحداث في توليفات جديدة مع الانتقاء الفوري من بينها 0 ويمثل هذا الجهل عبئاً ثقيلاً على ذهن الكاذب 0 وتظهر علامات هذا المجهود الذهني على الكاذب 0 فنفس الكاذب تصبح ميدان المعركة خاطفة بين الحقائق المختلفة والتفسيرات والتبريرات والتوليفات الممكنة لكل منها 0 وهو يشعر بأنه مجبر على إجراء كل هذه العمليات الذهنية الجبارة في أقل من ثوان معدودة ، فيتصرف كما الطالب في الامتحان نهاية العام .