TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هذا هو المدار الذي أنا محورُه

هذا هو المدار الذي أنا محورُه

نشر في: 20 أكتوبر, 2013: 10:01 م

لنقل في حوالى شهر، توفي لي أصدقاء مقربون (القاص عبد الستار ناصر في كندا، الكاتب صالح كاظم في برلين، الشاعر شيركو في ستوكهولم، الفنان رمزي في لندن. وآخرون ليسوا بالقرابة ذاتها). وأُصيب قرابة أربعة بالسرطان. آخر انفجار إرهابي في مدينة الثورة ببغداد (والانفجار الإرهابي في العراق يومي) قتل 36 (هم أرقام في نشرات الأخبار). والجرحى على حافة الموت لا يُحسبون. أعداد مُضاعفة للقتلى يومياً في سوريا. في مصر وتونس وليبيا لا يعرف الزاحف داخل النفق إذا ما كان الضوء الذي يتراءى له في آخره حقيقةً أم هلوسةً. في بقية العالم العربي يعيش الانسان جزءاً يسيراً من فضائل ومتع الحياة التي وفرها الخالق له. أما الفراغ المتبقي منها فعفطة عنز، أو (بَعَرُ آرامٍ في عرصاتها، كما يقول أمرؤ القيس).
أنا الذي أعتبرُني نائياً، وفي قلب الحياة الحديثة الآمنة قرابة ثلث قرن، أجدني اليوم وقد أُقحمتُ، من حيث لا أعي، عنوةً في شَرَكٍ لا إفلات من براثنه. الشرك الذي نسميهالسِسْتم ٍSystem (راجع ما كتبت عنه في عمودي هذا في 11/8/2011). وبالرغم من أنني لم أستطع اقتحام الزمن الغربي المتسارع (والزمن غير السِسْتم إلا أنه جزء منه) إلا أن الحاجات الجديدة التي أُمليت عليّ جعلتني رهين تعارضات لا فكاك منها. فأنا حرٌّ في صحبة زمني الداخلي بعد فقدان زمني القديم في بغداد، وعجزي عن اقتحام الزمن الغربي، ولكني عبدٌ ذليلٌ للسِستم الغربي الذي زمنُه جزء منه. ولذا فذبذبات الزمن الغربي الذي لم أستطع اقتحامَه تتسرب إليّ مع أسلاك سِسْتمِه الشائكة.
ولأتمثل بشريحة شائكة واحدة من هذا الجهاز الغربي الكاسر بالغ الضخامة. حين جاء جهاز الكومبيوتر أقبلتُ عليه كما أُقبل على رحمة حلّت على الكتابة والكتّاب. ثم دخل الانترنيت شمساً ثانية. وقفز إلى اليد جهاز الموبايل. وصارت هذه القوى الثلاث تتبادل الخدمات، فإذا الموبايل تلفزيوناً أيضاً، والتلفزيون إنترنيت أيضاً.وصارت القوى تتنافس مع خيالها لتكون الأسرعَزماناً، والأوسعَ مكاناً، والأكثرَ خدمات.
كنتُ في الثمانينيات والتسعينيات أذهبُ، إذا ألمّتْ بي حاجةٌ، إلى الأصل أو الفرع من شركةالاتصالات البريطانية. اليوم، وبعد تكاثر الشركات ويسر التواصل وتنامي الجشع في سوق التنافس، أنهتْ الشركات جميعاً حاجتها إلى المكان، إلى الوسيلة الانسانية للتواصل، وانتخبت أماكن في البلدان الجائعة، أفريقيا وآسيا، حيث اليد العاملة بالغة الرخص. صرت أتواصل عبر الأثير مع قوى مُفترضة لها صوت، يصدر من كائن أو آلة. تماما مثل التواصل بين ملايين الأصدقاء الافتراضيين على الفيس بوك أو ما يشبهه. وفي كل اتصال أجدني أتحدث مع صوت افتراضي لا أُحسن لهجته. ولا يمكن في اتصالين متتاليين أن تتحدث معالشخص ذاته. فإذا اضطررت إلى اتصالات عشرة لحل إشكال ما، فستعيد حكايتك مرات عشرة على آذن مختلفة. ومن الصعب أن تتطابق الإجابات. ومن المثير (للأعصاب) أن الصوت يتحدث إليك في كل مرة بسياق مُصاغ مسبقاً، مثل الآلة تماماً: "نعتذر إذا ما كان التعامل معك غيرَ مُرْضٍ.""كيف ترى تعاملنا: جيد، متوسط، رديء؟" وحتى لو قلت "رديء جداً." يجيبك الصوت "شكراً جزيلا على اتصالك بنا. هل هناك شيء تحب أن تضيفه؟"
وستتلاحق الأوقات الصعبة عليك إذا ما حدث التباس داخل شبكة السِسْتم في العالم الافتراضي غير المرئي. فسينقطع التلفون عن غير إرادة من أحد، ويليه الانترنيت. وتبدأ تشغل وقتك بالاتصالات به من خارج البيت، وكثيراً ما تبدو لك غير مجدية. وإذا بك، إذا ما كنت شاعراً وكاتباً مثلي، تتبدد في فضاءات هذ العالم الافتراضي دون قراءة ولا كتابة. ودون رسم أو موسيقى إذا ماكنت مولعاً بالرسم والموسيقى أيضاً.
هذا هو المدارُ الذي أنا محوره. فكيف لا أجدُ سكينةً بين دفّتيْ كتبِ أبي العلاء المعري وشوبنهاور؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram