لا أعرف مَن الذي أقنع وزارة العدل بوضع تمثال نصفي للمالكي في جناحها بمعرض بغداد الدولي، لا أبحث في نيات المسؤولين عن جناح الوزارة، ربما كانوا منافقين تقليديين عابرين للعصور، أو من صناع الديكتاتور.. وإنما أبحث عن التوقيت الذي يأتي متزامنا مع عملية إشاعة الخوف من الحرب الطائفية، والمصير المجهول الذي ينتظر البلاد لو تخلت عن قائدها "الهمام".
ظلت النصب والتماثيل حلماً يراود معظم الطغاة، من لم يكن منهم عسكريا جاء بنحاتين ليصمموا له تمثالاً مليئاً بالنياشين والأوسمة ليوزع بعدها نسخاً منه في الدوائر والمدارس والمصانع، وفي ثكنات الجيش.
في معظم البلدان التي خرجت من الحروب سعت الحكومات إلى بناء الجسور والمتاحف والمدارس.. فيما نحن نصرّ على بناء دولة الرجل الواحد،ولأجل هذا لابد من ان نضع تماثيله وصوره على كل الطرقات وفي كل الساحات وعلى شرفات المنازل.
يكتب كامو في الإنسان المتمرد "تنتشر تماثيل الطغاة في كل مكان يصل إليه طغيانهم، وهذا عدا عن رغبة في الخلود وتعظيم للذات قد تجتاح هؤلاء الطغاة، فإن لهذه التماثيل وظيفة تتمثل في أنها جزء من آلية التحكم والسيطرة على المجتمع. فهي تحتل الساحات العامة، تذكّر المرء أينما حل بأن هناك من يراقبه دوماً، وبأن الديكتاتور حاضر في كل مكان، تتغير أحوال البشر، يكبرون وتولد أجيال جديدة، والتمثال صامد عصي على أي تغيير، يذكر الناس دائماً بعجزهم أمامه. إنه الحاضر الأبدي الذي لا يجرؤ التاريخ على المرور به، فهو خلود، والخلود فوق التاريخ".
تمثال المالكي الذي تفاجأ به زوار معرض بغداد الدولي كشف لنا طريقة جدية في الكذب الذي أصبح ماركة مسجلة لبيانات الحكومة، حيث يجد المواطن نفسه أمام طريقة لطيفة في الخداع والتضليل، فبعد كل فعل منافٍ للدستور والقانون، يتعرض له العراقيون في وضح النهار تحت سمع وبصر الحكومة، يخرج علينا أحد الناطقين مبتسما مع سيل من المفردات المقحمة عنوة في الكلام، وقليل جدا من المعرفة وأقل القليل من احترام المشاعر.
بهذه الخلطة هبطت علينا وزارة العدل لتعلّق على تمثال المالكي، وبدلا من أن تخبرنا الوزارة عن الجهات التي تقف وراء التمثال وتتوعد بأن تحافظ على روح الديمقراطية، وتطمئن العراقيين الذين باتوا يخشون على مستقبل بلادهم، وبدلا من أن تروي الحكاية الحقيقية للتمثال، بدلا من هذا كله عادت الوزارة لتمارس معنا في مثل هذه الأوقات هوايتها المفضلة في "لفلفة" الأمور عبر طرق ووسائل متنوعة صار المواطن العادي يحفظها، ففي بيان كوميدي، قالت الوزارة إن "وضع تمثال رئيس مجلس الوزراء في جناح دائرة الإصلاح لا يقصد به إبراز الشخصية بحد ذاتها بل لإبراز الجوانب المهنية والحرفية للنزلاء في السجون الإصلاحية"، وإن "التمثال هو من عمل أحد النزلاء في سجن الناصرية كجزء من أعماله العديدة الموجودة في جناح الوزارة بمعرض بغداد الدولي" ولم يكتف اصحاب البيان بذلك بل أضافوا هالة من الروعة على التمثال مؤكدين أن "القطعة كانت معروضة بشكل طبيعي بين التحف الفنية ولم يتم تمييزها"!
بيان وزارة العدل يضعنا أمام ثلاثة احتمالات، فإما أن النزيل يهيم حباً بنوري المالكي، فقرر أن يضحي بالغالي والنفيس، وأن يخرج بالتمثال من السجن إلى أحد المصاهر لعمل نسخة برونزية منه دون علم الوزارة، أو أن التمثال لم يكن للسيد المالكي، وانما لاحدى الشخصيات الباكستانية كما اخبرنا احد رجال دولة القانون، أو أن وزارة العدل تكذب، وشخصياً أرجّح أن يكون الاحتمال الأخير هو الحقيقة لأسباب كثيرة، أبرزها أن السادة القائمين على شؤون الوزارة لا يهمهم رضا المواطن، بقدر ما يتمنون رضا الحاكم، الذي يعيّنهم ويملك أن يضعهم خارج أسوار الوظيفة.
وبناءً عليه ندعو الله أن تكون وزارة العدل صادقة في بيانها، وأن تثبت الأيام أنها لم تسع إلى فتح الباب أمام عودة نصب "القائد الضرورة" في ساحة الفردوس، وأن التمثال كان مجرد نزوة فنية استبدّت بالسجين، وسبحان الذي لا يصاب بهوس الفن، نتمنى ذلك ونرجوه من الله حرصاً على صورة الوزير الذي نتمنى ألا يرفع شعار "مرضاة المالكي غايتنا"!
تمثال المالكي
[post-views]
نشر في: 22 أكتوبر, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
ابو سجاد
صدقني يااستاذ علي ان السلطان لايكون بهذا الحجم من الدكتاتورية لو لم يلتمس قبولا من الااتلاف اللاوطني لو كان هناك اعتراض على سلوكه لما تمادى الى هذا الحد والتمثال اكبر رسالة الى الجماهير ان الااتلاف قابل على سلوك السلطان وما نسمعه عبر الفضائيات انتقادهم له