الشخوص في " الهمس العالي " للقاصّة سعاد الجزائري تعيش أزمتها الحياتية العامة والخاصة . وهي ملاحظة عامة على الكثير من قصصها .هذا هو الإشكال الجوهري المميز لهذه المجموعة . ولأنها أزمة انطولوجية تميزت بالتمركز والهيمنة وتكررت مراراً في القصص ، وكأن القص
الشخوص في " الهمس العالي " للقاصّة سعاد الجزائري تعيش أزمتها الحياتية العامة والخاصة . وهي ملاحظة عامة على الكثير من قصصها .هذا هو الإشكال الجوهري المميز لهذه المجموعة . ولأنها أزمة انطولوجية تميزت بالتمركز والهيمنة وتكررت مراراً في القصص ، وكأن القصة الواحدة غير كافية للتعبير عن هذا الإشكال الوجودي الكبير والضاغط .
وجدت في القصص القصيرة اختصاراً لامتحانات الكائن المستمرة والحاضرة دوماً ، وكأنها مستمرة بوجودها ولا تريد أن تتحول ماضياً . ربما لأن المرأة هي الحاضرة كلياً في القصص ، وكأنها سرديات أنثوية لغةً وموضوعاً . وتكرر حضور المرأة ، متأت من تمركزها الحقيقي في الحياة العامة أو العائلة ، وتلعب دوراً بارزاً في المجال الثقافي والفكري ،ولهذا تمظهرات عديدة في القصص . ونجحت سعاد الجزائري كثيراً في تحقيق قصص قصيرة مركزة جداً ، وبسرد شعري وشخوص لم تتجاوز ثنائية العلاقة بين الرجل والمرأة ، باعتبارهما عنصراً بنائياً مهماً له دلالة بالغة في القصص ، عبر تكرر ذلك ، كاشفة عن عيوب ثقافية ومعرفية بين الاثنين، ثنائية ملاحقة بالتباين الاختلافي العميق جداً . وتوفرت لهذه المجموعة عناصر فنية غير التقليدية والمألوفة في السرد القريب لها وأهم عناصرها البنائية العين السينمائية الحساسة ، وكأن القاصة تكتب سيناريو لفيلم قصير وصوره مركزة / مختصرة ، تشبع حاجة القاصة لها ، إضافة إلى الشعرية الفياضة في كل القصص ، مما جعلها منفتحة واسعة على تعدد المعنى ، وتنوع الدلالة ، كما ان القاصة دائماً ما تتركنا أمام حيرة التلقي وإشراكنا بطرح الأسئلة عن إشكالات الأنثى في كل القصص . لأن الرجل كان ملحقاً بها وكأن القاصة تستعيد دوره الذي كان عليه في بدء الحضارات .
كما تمكنت القاصة سعاد الجزائري من نحت صورها السردية بعناية بالغة وتحولت قصصها إلى تجسيدات واضحة على سطوح المرايا والصورة إحدى خصائص الشعر والسينما والفنون .
لم يكن حديثاً التعبير بالصورة ، بل هو مقترن مع الإبداع منذ اللحظة الإنسانية الأولى ، لكن الصورة ـتنوعت ارتباطاً مع تباين الأنواع والفنون ،والصورة في مجموعة " الهمس العالي " مرسومة بدقة عالية مع توصيف لحوافها ، وكأن هذه القصص القصيرة هي مشروعات سينمائية . والصورة هي الأوفر حظاً في تقديم الجسد ، لاسيما أن القصص ذات عناية بالغة بالجسد وإعادة تشغيله بآلية فنية ، تجعله كاشفاً عن لغة محددة الوظيفة . لذا دائماً ما يتبدّى الجسد عارياً في الصورة وحاضراً فيها وكأن المتلقي يراه منعكساً على سطح المرآة ، على الرغم من أن القصة كشفت حضور المرأة على سطح المرآة التي كانت مزدوجة الوظيفة حيث قوة الاغتراب في حياة لم تساهم المرآة بإنتاجها ، وهذا النوع من الاغتراب هو المألوف في حياة الآخر وقد درسه العديد من فلاسفة جماعة فرانكفورت مثل دور كرايمر / وادورنو / وبنيامين ، واهتم بها علم النفس الحديث ، متمثلاً بالعالم لاكان ، شخوص سعاد الجزائري مغتربة غير متجانسة مع المحيط الخارجي الواسع ، ومتوترة بعلاقتها الثنائية مع الثنائي ، حيث العزلة والمخاوف والشكوك بكل ما يتمظهر عن علاقة قلقة ومرتبكة أفضت للانتحار . وهذه الواقعة هي التجسد الأوضح لحالة الاغتراب التي عاشتها المرأة في حياة وجدتها جاهزة ، أنتجها الآخرون وما عليها إلا القبول بها والانغمار بالمحيط ، لكن استمرار المفروض عليها ، هو الذي أعاد تشكيل كينونة المرأة المعروفة بشكل دقيق للقاصة . وهذه إحدى مميزات قصصها القصيرة التي قالت كل شيء دفعة واحدة ولكن بتتابع هادئ ولغة شفافة وصافية ، مثيرة للدهشة .
ذكرتني وظيفة المرأة في قصة سعاد الجزائري بمرآة الغريبة التي قال عنها الجاحظ في رسالته الخاصة بها ، بأنها ملازمة للغريبة التي في غير مكانها ، وتبدو دائماً مجلوة ونظيفة لكثرة ما تحدق بها ، لترى الحياة عبر ملامحها ومتروكات الزمن على وجهها . والمرأة الغريبة ، الممتحنة بوحدتها ، حتى مع وجود آخر معها ، تحدق بوجهها لتعيد قراءة تفاصيله ، كي تتعرف على ما تركته الحياة / والاغتراب على وجهها .
المرأة في قصص سعاد الجزائري غريبة ، غير متعايشة على الرغم من وجود مشترك للآخر معها . لكنه وجود غير مستقر ، مهتز / زئبقي ، مع غياب لوجود الآخر بالعلاقة اليومية ، بمعنى تضاؤل فرص معرفة الآخر والتعايش معه . والخسارة مضاعفة ، المرأة لم تستطع قبول الوافد معها وأيضاً الآخر ، المختلف ثقافياً . وضع المرأة معقد وهي تعيش تنافراً وتبايناً مع الذي معها . كما أن استعادات ذاكرتها شبه غائبة ، خصوصاً في القصص الخاصة عن حياتها في المنفى . ولا تكفي استعادة الماضي عبر قصتين مثلاً . لم تكن الذاكرة عبر سردياتها حاضرة وسط اختبارات العلاقة مع الآخر ، وهيمنة سرديات محيط جديد ، مغاير . لذا ظلت الهوية بطيئة الحركة وهي ـ أيضاً ـ كامنة ، لم تستطع التحرر ولو قليلاً من الانجذاب الكلي للآخر وتعدد الفضاءات . لذا لم اجد نوعاً من التبادل الثقافي في القصص ، وسيادة نوع ثقافي مفروض على الأنا ، مع غياب للجدل الهوياتي . وأعتقد بأن سعاد الجزائري منشغلة أكثر بقضايا المرأة وقصصها أكثر دقة بتوصيفها لإشكالات الكائن الأنثوي في محيط الآخر المنتج لأسئلة ، ظلت حاضرة في نفوس شخوصها، التي لم تستطع العثور على جواب ما ، من هنا نشأ شكل من التشظي الروحي والنفسي ، وتلاشي الفرص تماماً أمم ممكنات تحقق نوع من التبادل مع آخر وتواصل روحي / وثقافي كما في قصة الرنين الخامس .
فقدت المرأة في القصص دهشتها بالآخر ومحيطه وتحول المكان بكل سعته إلى مكان نمطي ، لم تنجح المرأة بإقامة علاقة مع آخر متوازنة ، حتى حركتها ، هي بدون هدف ، ودائما ما تتحرك باتجاه اللا هدف / اللامعنى ، لهذا لا تعرف حتى جغرافية الفضاء أو ما يوحي له من دلائل الخيبة ، الضياع ، والتهميش ، مع صعوبة الاندماج وقبول الآخر ، جعلت من الحياة صعبة ، والمرأة ضحية متكررة ، ترى الكينونة بدون معنى والحركة فيها لا تفضي إلى نتيجة ، هكذا تنتهي الوقائع السردية دائماً ، كل شيء نحو الفشل ، والماضي غائب عبر استعمالات العقل الماضي وسردياته مكانه الحمام وسحب السيفون ، هذا فعل غرائبي وكاف لترسيم إشكالات المرأة الانطولوجية في محيط الآخر ، وقصة " آخر ثانية عشرة " واحدة من القصص الخطيرة وكانت حاضرة في ستينات القرن الماضي في القصة العراقية والمصرية ولكن بصدمات أقل وأكثر هدوءاً . لا شيء يستحق الاحتفاء به وهو يدنو من لحظة غيابه ، مثلما لا تتوقع بأن ما يأتي هو أكثر سوءاً من الذي مضى . لذا لا شيء يستحق الاحتفاء ، والتشارك مع الآخر لممارسة الاحتفاء . إنه أكذوبة ثقافية ، أو هي ـ طقوس العيد ـ تمظهر لتخيّلات، وأحلام يقظة ، أحلام كوابيس ، لا تختلف كثيراً عن قصة " أماندا " الحلمية ، والمفترضة ، وصحيحة ، حيث تختزل هوية الكائن بفقدانه لكنيته ، وهذا أمر مثير للدهشة وهو أحد أسباب الاغتراب هناك .
هذه مقدمة عامة مشتركة بين القصص ، وسأحاول قراءة تفاصيل القصص في وقت قريب ، لأن مجموعة " الهمس العالي " تستحق القراءة الواعية والاحتفاء بها ، لأنها قدمت لنا ما نبحث عنه ونريده .
جميع التعليقات 1
علياء الجزائري
عاشت اﻻيادي مبدعه دائما