استهوت الكتابة في القطارات البطيئة عتيقة الطراز كثيرا من الكتاب ، فهي تلهمهم عندما تخترق بهم المديات الشاسعة وتساند المخيلة على اكتناز الصور وتثري البصر وتحفز الموهبة كما يلهمهم وجود النساء الفاتنات المسافرات معهم في عربة واحدة ، فهذا الشاعر الروسي فوزيينسكي يكتب في القطار( ديوان الإغراء) مستلهما الحسناوات المترحلات بثيابهن المغوية ويشرع بكتابة ملحمته الشعرية " المهرة " في إحدى رحلاته ليكملها في رحلة أخرى ،لوكليزيو الكاتب الفائز بنوبل عام 2008 يقول إنه يحب كثيرا الكتابة في القطارات – قطارات الماضي البطيئة الممتعة.
تمنحنا رحلة القطار انفتاحا على التنوع البشري وتيسر لنا التواصل مع أشباهنا وتنسج لعيوننا الدهشة بمفاجآت الأمكنة المترحلة معنا مثلما تكشف لنا عن الاختلاف في سلوك البشر وعاداتهم وتطلعنا على تعدد الثقافات وقبول المختلف في المكان والزمان المحددين وأسهمت القطارات الأوروبية في نشر الحداثة وتعزيز فكرة التحرر التي تفضي إلى الممارسة الديموقراطية ومهدت لها منذ بدء الثورة الصناعية التي انبثقت من ظلام العصور الوسطى وحروبها لتقيم حضارة التصنيع على هدير المكائن البخارية فتتيح للبشر سرعة التنقل والسفر بين المدن والبلدان في قطارات الفحم والبخار أولا ثم القطارات الكهربائية وقطارات ( الماغليف )التي تسير على وسادة هوائية وقطارات التناغم السريعة .
ولكن هل كان بوسع السكك الحديدية أن تكون الوسيلة الحضارية الحاسمة للتدرب على الديموقراطية وقبول المختلف وحوار الثقافات في البلدان التي يفتقر مواطنوها إلى التواصل ويستغرقهم انغلاق الأفكار والتعصب ؟
يبدو أن الديكتاتوريات المتتابعة التي حكمت العراق منذ نحو ستين عاما قد أدركت العلاقة الجدلية بين القطار والحرية فمثلت السكك الحديد خطرا على سلطتها ،لذا حرصت على إبقاء البلاد مقطعة الأوصال كجزر معزولة ولمتطور السكك إلا لصالح مخططات الحروب ونقل المعدات والجنود في الحرب مع إيران كما فعلت بريطانيا حين أنشأت أول سكة حديد عند احتلالها للعراق ، ترى ما الذي كان سيحصل للعراق لو أنجز مشروع السكة الحديد لربط العراق ببرلين أوائل القرن العشرين؟ هل كان السفر الميسر إلى أوروبا سيغير من تركيبة وثقافة المجتمع الذي تغلب عليه القيم القبلية والبدوية والانغلاق ؟ وهل كان لهذا القطار العالمي أن يحقق بعضا من التواصل بين الثقافات المختلفة وهو الذي سيربط ( الباءات الثلاثة :البصرة – بغداد – برلين ) ببعضها ؟؟ هل كنا سنرى مجتمعا متخففا من ماضيه يحيا الحاضر ويدع التاريخ في المقابر والمتاحف كما يفعل الأوروبيون ؟
لقد تعلمت من رحلاتي العديدة في القطارات الأوروبية اكثر مما علمتني إياه الكتب ، فكيف كنت سأعرف التمييز بين اللغات والأعراق والعادات لولا الرحلات العديدة كرحلتي بين بودابست وفيينا حيث ينطلق القطار من محطة كيليتي العريقة لتمرق إلى جوارنا جبال وحقول وقرى وغابات ونحن صحبة مسافرين صرب وبوسنيين ورومانيين وتشيك وهنغاريين، حولت لغاتهم القطار إلى برج بابل وثمة عاشقان لاهوية لهما سوى الحب يتعانقان في بهجة الرحلة المسائية وينغم أحد الشباب أغنيته على الغيتار، بينما تنهمك فتاة بقراءة الخرائط وتكتب امرأة على حاسوبها بينما تتناقش سيدات بثياب فولكلورية مطرزة مع المفتش حول تذكرة القطار ويصمت رجالهن الريفيون الذين يلتهمون ساندويتشات نقانق متبلة بالثوموتبكي امرأة متوحدة لدى النافذة ، ففي القطار تتشابك المصائر وتنشط الأحلام والأحزان ويجري حوار خفي بين الثقافات قد يفضي إلى تواصل لاحق بعد بلوغ محطة " فيينا ويستباهن وف "
يتبع
أنسنه الديموقراطية في القطارات: ثقافات تتواصل ورحلات عشق وكتابة
نشر في: 26 أكتوبر, 2013: 10:01 م










