محمود عبد الوهاب قد لا يثير العنوان إلاّ عدداً محدوداً من القرّاء، فمعظمهم يرى في العنوان اسماً خاصاً يُميَّزُ به كتاب أو نصّ من غيره. كانت دراسة العنوان، حتى مطلع القرن الماضي، تقتصر على جملته اللغوية التي توضع على غلاف الكتاب أو تعتلي نصاً من النصوص، وغالباً ما كان الكاتب أو الشاعر يسعى إلى عنوان جماليّ من دون اهتمام بدلالته،
يلتقط عنوانه باعتماد ذائقته وحدسه وحسّاسيته،وأكثر ما كان يحصل ذلك عند الكتّاب الرومانسيين. ظلّ مفهوم العنوان بمعزل عن مُعنوَنهِ كتاباً أو نصاً، لا يدخل ضمن سياقاتهما إلاّ في حالات محدودة، وأغلب ما يكون ذلك في السياقات البلاغية واللغوية، فالوعي بالعنوان لم يظهر إلاّ متأخراً ضمن معطيات المنهجيات النقدية الحديثة، وكان طرفا التواصل: المبدع والمتلقي، كلاهما لا يلتفتان إلى وظيفة العنوان في إنتاج الدلالة،فلم يكن العنوان، في وعيهما المعرفي، أحدى شفرات النص الذي تنطوي عليه موجِّهات فعل القراءة والتأويل. توسّعَ مفهوم النصّ في العقود الأولى من القرن الماضي، وعملت الدراسات السيميولوجية على الحفر في منابت العنوان تفكيكاً وتركيباً، بوصفه نصّاً موازياً للنص الرئيس، ومن أجل تحديد بنيات النص العميقة الثاوية تحت بنياته السطحية، بحثاً عن جواب السؤال الجوهري التالي: كيف قال النصّ ما قاله؟. ضاعفت الدراسات السيميولوجية اهتمامها بالعنوان، مصطلحاً إجرائياً ومفتاحاً أساسياً، للدخول في شبكة النص وأغواره، قصد استنطاقه وتأويله وإضاءة المعتم من جوانبه. قراءة العنوان سيميولوجياً تعني البحث عن دلالات العلامات داخله: العلامة اللغوية، والعلامة اللالغوية/الإيقونة، العنوان الفرعي، تجنيس الكتاب، الإهداءات. هذه العلامات ينبغي أن تُكشف دلالاتها وتُحال إلى ما تعنيه في إشاراتها إلى الكتاب أو النصّ. على غلاف كتابه (وجع الكتابة) للروائي مهدي عيســى الصقر، صـورة المــؤلف وهـو يضـع كفّه اليمنى على جبينه. الصورة/الإيقونة، في علاقتــها المكانية بـ (وجع الكتابة) تعني أن المؤلف يحمل همّاً أو قلقاً أو تأمّلاً، ولو كانت علاقة الصورة نفسها بمكان آخر، صيدلية أو مستشفى مثلاً، لاكتسبت دلالة مغايرة للأولى، ولكانت تعني أن صاحبها في الصورة، يعاني صداعاً أو غيره. المسألة لا تقف عند هذا الحدّ، ينبـغي لقارئ العنـــوان أن يُحـيل تأويله لـمفهوم الإيقونة (الهمّ، القلق، التأمّل) إلى مرجعها العنوان اللغوي. الصورة إذن دلالة إضافيــة إلى (وجع الكتابة)، فالإيقونة هنا تتضامن مع العنوان اللغوي، وتنضمّ إليه في تأسيس كثافة علاماتيّة لدلالة العنوان. تعمل السيميولوجيا ذلك، لأنها ترى أن للعنـــوان، بأنماطه المختلفة، وظائفَ أساسية ترتبط بالقارئ، فالعنوان رسالة تواصلية ومعرفيّة وجمالية، تصدر عن الكاتب (المرسِل) إلى القارئ (المرسَل إليه)، يستقبلها القارئ ويعمل على تفكيكها، واستنطاقها بلغته، ويُحيلها إلى مرجعياتها كتباً أو نصوصاً، لإنتاج الدلالة. يقصر(جون كوهن) وضع العنوان على النص النثري وحده، فالعنونة عند كوهن، من سمات النثر، لأن النثر يقوم على الوصل والقواعد المنطقية، أما الشعر، يقول كوهن، فبإمكانه " أن يستغني عن العنوان ما دام يستند إلى اللا إنسجام، ويفتقر إلى الفكرة التركيبية التي توحّد شتات النص المبعثر، وبالتالي قد يكون مطلـع القصيدة عنواناً". انتزاع العنوان بلفظه من النصّ، يعود تاريخياً إلى أواخر الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد، فقد كان الكتبة في حضارة وادي الرافدين يُعَنوِنون النصوص الأدبية المدوّنة في الألواح الطينية، بانتزاع أول سطر أو أول عبارة من مستهل القصــيدة يتخذونه عنواناً، مثل: (شانقبا أمورو) أي (هو الذي رأى كلّ شيء) عنواناً لملحمة كلكامش و(حينما عليش) أي (حينما في العلا) عنواناً لأسطورة الخليقة البابلية. وكان مطلع القصيدة، في أدبنا العربي القديم، عنواناً لها، ربما لأنها كانت تستنـد إلى اللا إنسجام باعتمادها وحدة البيت الشعري، وبعد تحوّلات الشعر العربي في العصور التالية، أصبح للقصيدة الحديثة عنوان خاص بها، يضعه الشاعر للدلالة أو الترميز، بعد أن استندت القصيدة إلى الوصل والتركيب المنطقي باعتمادها وحدة الموضوع. وعلى غير ما يراه (كوهن)، من أن العنوان من سمات النثر، وأن الشعر قد يستغني عنه، يذهب (روبرت شولز) إلى أن العنوان قد يخلق القصيدة، ويتمثل شولز بأصغر النصوص الشعرية في اللغة الإنكليزية، وهــي مرثية (مرون W.C. Merwin) : مرثية سأعرضها على مَنْ؟ في هذا النص القصير، بنيتان يعمل عليهما القارئ في فعل قراءته، هما: العنوان "مرثية" والسطر المتأسس على السؤال " سأعرضها على مَنْ؟" ومن دون أن يزاوج القارئ بين عنوان النص القصير والسطر الذي يليه، لن يتشكل أمام القارئ نص تام، ومن دون عنوان هذا النص الشعري القصير يبدو السؤال " سأعرضها على مَنْ؟ " سؤالاً حقيقياً، لكنّ هذا السطر يؤلف مع عنوانه نصاً شعرياً تثوي دلالته في علاقة السياق بإحالة ضمير المؤنث في " سأعرضها " على العنوان لتنبعث كيـنونة سيميائية لنص مكتمل، يحمل في دلالته " أن شاعر الرثاء الضمني يضع في حسبانه شخصاً واحداً يعلو تقييمه على تقييم الجمهور الضمني الذي تتوجه
فـي الـعـنـونـة
نشر في: 10 نوفمبر, 2009: 05:20 م