في السيرة الذاتية (*) التي صدرت قبل أيام بعنوان (نورمان ميللر.. حياة مزدوجة) التي وضعها جي. ميتشيل لينون، إضاءات جديدة على تجربة هذا الكاتب الذي يعد أحد كتاب القرن العشرين الأكثر أصالة، إذ يكشف لينون عن ثيمتين رئيستين في تجربة ميللر الأدبية وهما: صمت الكاتب على سنوات شبابه وإنه الروائي الذي لم يكتب رواية مهمة(!) برغم النجاح الكبير الذي حققه عمله الأول (العراة والموتى) وهو لم يزل في الثانية والعشرين من عمره، وكتبه الثلاثة المتميزة اللاحقة (Barbary Shore) و (The Deer Park) لأن ميلر أضاع الاتجاه مبكراً، فلم يكتب أبداً (أو فكر في..) ذلك الكتاب الذي نذر نفسه من أجله.
والسؤال هو: هل كتب ميللر رواية تقوم على تجاربه المبكرة؟ يبدو الأمر وكأنه كتب أكثر من سيرة لحياته التي (جسدها بشكل جيد في روايته المسماة العراة والموتى)، وقد يكون الأمر خيالا محضا.
يتساءل لينون: لماذا لم يكتب حفيد الحاخام المكافح في عمله التجاري وابن المحاسب المتشرد والأم العاشقة والتلميذ المبدع والكاتب الشاب، وفيه أيضاً شيء من الطفل المدلل ولكن الخائف (بمفهوم الجبن)، لماذا لم يكتب عن شبابه في بروكلين، وهو القائل: أتردد في الكشف عن حكايات والديّ؟ الأب كان مقامراً غارقاً في الديون وعلى حافة مأزق قانوني، وغالباً ما كان عاطلاً عن العمل – هل كان خجلاً من التطرق إلى تلك الأيام التي لا يمكن التحدث عنها؟
في كتابه (إعلانات من أجلي) عام 1959 ناقش ميلر صدمة التهليل النقدي والجماهيري المفاجئ لكتابه والرخاء الذي جناه: (كان ذلك بمثابة وداع لحياة رجل عادي بشكل مفاجئ، حياة لن أعرفها ثانية، في ذلك الدرب الكئيب الذي عادة يعرف فيها المرء أموراً كهذه، كأن تؤدي وظيفة مملة وأنت تتلقى الأوامر من شخص تكرهه).
نتيجة لهذا (لم يكن، ثمة، شيء في سنواتي الأربع والعشرين من حياتي التي مرت لأكتب عنه، وترتب علي أن أبدأ حياتي مرة أخرى) كما لو كان ميلر قد استنفد أية فائدة أدبية من حياته المبكرة التي لم يشأ التصدي لها.
كثيراً ما أكد ميللر على أنه يحب الصحافة، والرواية بالنسبة له عمل شاق وهي، على وفق اعترافه، (النداء الأعلى) ليترك خلفه ذخراً من القصص، التي لم يستغلها، بضمنها ما يتعلق بحياته عندما كان في الحادية والعشرين، لكن ثمة ما انعكس في أعماله الصحفية مثل (جيوش الليل) و (من نار على القمر) اللتين هما بين أفضل أعماله، لكنه كتب أيضاً عن نفسه ولكن ليس عن ماضيه، بل عن زمنه الحاضر، ورسم "بورتريه ذاتياً" له، لكن مأزقه تمثل في ثيمتين: ماضيه الشخصي وكتابة الرواية.
"إعلانات من أجلي" كتاب ميلر الرابع، يمثل، تماماً، البحث عن الذات بغية الكشف عنها، كولاج السيرة الذاتية التي هي أعظم إنجاز له. قام بوضعها في أواخر الخمسينات بعد أن نشر ثلاث روايات، و موضوعه الرئيس هو جهوده المحبطة والخطط الجارية لكتابة أخرى، أي مجموعة طموحة من الروايات.
في "إعلانات"، نظرة إلى الوراء، إلى حياته كاتباً، إذ جمع على شكل (كولاج) القصص والمقالات ونصوصاً صحافية ومقاطع مناسباتية، وأجزاء من نسخة مبكرة من "The Deer Park" التي عمد فيها إلى إعادة صياغة جذرية لها، وشظايا من ما كان يتوقع أن يشكل رواياته اللاحقة (التي بقيت غير مكتملة).
أسست هذه الأجزاء، مجتمعة، أداءً شخصياً من شأنه أن يكون المحرك لبقية كتاباته اللاحقة.
"إعلانات" مثّل نطفة ما بعد الحداثة الأدبية، فضلا عن إنها مانيفستو عن هيمنة صوت الشخص الأول.
إنها لسيرة ذاتية مبدعة وثقت، واستبدلت، نصف عقد من الرواية التي لم يكتبها ميللر، ودراسة ذاتية تمثل بديلاً لاستكشاف السرد المباشر عن الجانب السيكولوجي لميللر الشاب.
(*) ذا نيويوركر، ريتشارد برودي.
نورمان ميلر شاباً
[post-views]
نشر في: 28 أكتوبر, 2013: 10:01 م