لم يسأم الكاتب والناقد اللبناني محمد دكروب تكاليف الحياة بعد أن تخطى الثمانين، فعاش بعدها أربعة أعوام دون أن يشعر بالشيخوخة، خصوصأ وأنه استعاد بعض دوره وشبوبيته قبل عامين، حين أعاد إلى الحياة مجلة الطريق، التي احتجبت ثمانية أعوام، ظن البعض أنها ستسمح بتسلل الشيخوخة للرجل الذي واظب على رئاسة تحريرها لثلاثة عقود، كان خلالها يحررها من الغلاف إلى الغلاف، مُعتمداً على صداقاته الكثيرة مع النقاد والكتاب الطليعيين، الذين واظبوا على نشرمقالاتهم فيها مجاناً، احتراماً لعقل دكروب الذي اكتفى بالكفاف، وبمثالية ظلت تدفعه للعمل بدأب، ليُبلّغ رسالته النبيلة، دون التفات لأي منفعة مادية، كان يعرف أنها زائلة.
عاش دكروب عصامياً ثقَّف نفسَه بنفسه، بعد أن ترك المدرسة باكراً ليساعد والده في دكان الفول، ثم سمكرياً وبياعاً للترمس والورد، لكنه لم يتوقف عن القراءة، قبل أن يأخذه حسين مروة إلى بيروت، ليعمل في دكان لبيع الورق، ويتعرف على قادة الحزب الشيوعي اللبناني، والعديد من الكتّاب والمثقفين، ويبدأ من هناك بكتابة قصص واقعية مخلوطة برومانسية، معتمداً على قراءاته لما يُنشر في مجلة الكاتب المصري التي كان يصدرها طه حسين والكتب الماركسية، ما أكسبه خبرات فكرية وثقافية وسياسية، جامعاً بين البستاني واليازجي والشدياق والعلايلي وحسين مروة من لبنان وبين المصريين طه حسين وسلامة موسى ويحيى حقي ويوسف إدريس وغيرهم.
امتازت كتاباته النقدية بابتعادها عن التنظير البارد، وكانت تنطلق من عناصر وجزئيات واقعية وأدبية وحياتية، يجدها في النصوص والمؤلفات التي كتب عنها، وفي حياة وسير وأفكار أصحاب تلك المؤلفات، أي أنه تقمص دور الراوي في النقد، فقد كان يختلق نوعاً من الصحبة الودودة مع الكتب والشخصيات التي يتناولها، تتجاوز النقد إلى نسج صور تحضر فيها نصوص ومنجزات هؤلاء، إلى جوار وقائع وتفاصيل من الزمن الذي عاشوا فيه، ومن صداقاتهم وتأثراتهم بغيرهم، صور تحتمل السرد والحوار والتذكر، قبل العودة مجدداً إلى السياق، ليمزج ذلك كله بالتوثيق التاريخي والاقتباسات، وكأنه يمارس الحنين لمجموعته القصصية اليتيمة "الشارع الطويل" التي أصدرها عام (1954).
ابن الثقافة الوطنية، الذي تربى على فكر النهضة والماركسية، استطاع الحفاظ على روحه الفتية حتى النهاية، لكنه رحل بالتزامن مع الاحتفال بالعيد الـ 89 للسنديانة الحمراء، الحزب الطليعي الذي يسعى الشباب لاستعادة ماضيه المجيد، بعد فقدانهم لهذا الشيوعي الحقيقي وغير المزيف، كما يصفونه وهو الذي ظل قلقاً على مستقبلهم فأوصاهم قبل الرحيل "زيدوا ثقافتكم يا رفاقي، نظّموا أكثر عملية التثقيف، حتى تتزايد شعلة الضياء تأججاً وسط الظلام الذي يريد أن يطغى".
لم يكن دكروب حزبياً مطيعاً قابلاً بتطبيق خط سياسي محدد، ظل يسعى للتضامن مع المقهورين والمعذبين، والتشكيك بالمبادئ السائدة وتخريبها، وإظهار كل ما هو مكبوت بفعل الإجماع الاجتماعي والثقافي، من دون التنازل أبداً عن التميّز، وهكذا تمكّن من الإمساك بحريته، ومارسها في "الطريق" لقناعته أن حرمان المجتمع من البوح الحر سوف يؤدي عبر الوقت إلى تكلس الحساسية الثقافية، غيّر عميقاً في مسالك الرؤية وخلخل الثوابت التي تعرقل فعل الحرية، علّم أجيالاً كيفية حماية الثقافة للقيم التي تمسك بها، وهو القادم إلى عالمها من بيئات صناعية رثة وغير فاعله.
من فوّال وسقّاء في مشتل زراعي، وبائع خبز وترمس وياسمين لرواد المقاهي، وعامل بناء وسمكريٍّ مُحترف انتقل دكروب بفضل عصاميته، إلى واحد من الكتّاب الذين أحبهم وواظب على قراءتهم والتعلم على كتبهم، اندمج في الوسط الثقافي والوطني، وترسخ انتماؤه إلى الشيوعية، فكرس نفسه كاتباً ومناضلاً شيوعياً على طريقته، حراً ومنفتحاً على أفق النقد الذاتي، الفردي والحزبي أو الجماعي، وهو ينتقل اليوم إلى سفر الخلود يُخلّف بعده فراغاً لن يملأه أحد.
دكروب.. رحيلُ شابٍّ في الثمانين
[post-views]
نشر في: 28 أكتوبر, 2013: 10:01 م