القسم الثاني
عندما سُمع صفير أول قاطرة في ألمانيا أعلن الكاتب الألماني لودفيك بورنه بنبرة متفائلة " أنا متحمس جدا لهذه القطارات بسبب نتائجها السياسية الهائلة ، فعلى هذه السكك سوف تتكسر شوكة الطغيان ولسوف تصبح الحروب من المستحيلات فالقطارات تقرب الشعوب من بعضها " كان نصف مقولة لودفيك سليما ونصفها الآخر متأثرا برومانسية القرن التاسع عشر ، قرن الأحلام الكبرى التي جعلت توق الكاتب للسلام مرهونا بهدير القطارات وزمجرة البخار ، مؤكد أن شبكة القطارات في أوروبا أسهمت في تحطيم سلطة الاستبداد وقربت بين الشعوب وعملت على تمهيد طريق الديموقراطية فالمسافرون من جميع البلدان يتشاركون عربة واحدة و توحد بينهم وجهة السفر و يغامرون جميعا في نسج حكاية الإنسانية الكبرى التي تحرر الفرد من سكون المكان ورتابة البيت وتلقيه في أحضان المجازفة ،لكن حلم لودفيك بانتهاء الحروب لم يتحقق بل ازدادت الحروب وحشية في القرن العشرين وأنهت عصر الرومانسية بحداثة وثورات وديمقراطية مضرجة بدماء البشر.
القطار علاجاً للوحشة
لطالما سافر الشاعر الفرنسي بيير ريفردي بالقطارات لعلاج الوحشة معتقدا بأن أقسى العذابات إيلاما للإنسان تكمن في حرمانه من حرية الحركة في الأمكنة ، فيقول في احدى قصائده " قد نموت من العطش والطموح وقد نموت من البقاء طويلا في نفس الموضع " فكان يسافر بالقطار عندما تطبق على قلبه مخالب الوحدة والوحشة فيشعر بالحاجة إلى انعاش روحه برؤية مشهد خارجي فسيح يحرره من زنزانة الرتابة والضجر اليومي ويمضي إلى الريف هربا من المدينة القاسية التي خيبت آماله وفي القطار البطيء ينطلق خياله مع مشاهد الغابات والقلاع والأنهار ويدون بعض قصائده وهو مستأنس بضحكات النساء المغوية وأحاديث المسافرين المرحة في عربة القطار ولكن يا للخيبة ! فعند الوصول لم يجد أحدا في انتظاره على رصيف المحطة وليس من رفيقة تؤنس وحدته في الريف فتنهمر عليه الأحزان وتتضاعف وحشته ليعود بالقطار التالي إلى المدينة الصاخبة متمتعا برفقة الغرباء ورؤية النساء الفاتنات المسافرات في أبهى أزيائهن وزينتهن .
القطار والزمن
يسرد القطار بعضا من قصة الزمان والمكان مثلما يفعل الروائي الذي يملأ الزمن بمحتوى حافل بالأحداث والشخوص فهو يكثف الزمن ويحفظه لنا لنستهلكه في التقمص والتذكر والأحلام ونحن ننغمر بقراءة الرواية فنكون في زمنين مختلفين في اللحظة ذاتها وعندما نكون في الطائرة والقطار نستهلك زمننا بطريقة أسرع مما لو كنا على الأرض وتختلف سرعة استهلاكنا للزمان والمكان باختلاف ما يسرده لنا القطار العادي والقطار السريع الذي يسير بسرعة 400 كيلومتر في الساعة ، جربت ذلك في رحلة بالقطار السريع بين باريس وغرينوبل جنوب شرق فرنسا وهي المدينة التي تقع تحت ذرى جبل "فيركور" معقل المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي ومن اسم هذا الجبل استعار الشاعر "جان بروليه" اسمه الأدبي "فيركور" عندما نشر روايته " صمت البحر" كان زمن المقاومة والحرب يقبع وراء الجبل ساكنا ومحنطا لكننا استحضرناه حين سردوا لنا مأثرة المقاومة وأيقظوا زمنها وتخيلنا انفسنا في الحكاية ، بينما كنا نعيش حاضرا حيا تكثف فيه إحساسنا بالزمن وأدركنا في وعينا الداخلي لحظتها معيارا مختلفا للزمن الذي نعوم فيه مزهوين بانتصارنا على المسافات ، فكان إحساسنا بالزمن ونحن في القطار السريع أقرب إلى نشوة صوفية تماثل ما تفعله الموسيقى وهي توقظنا على جريان الزمن وتحررنا من ضغوط واقعنا وتمنح معنى وقيمة للحظتنا .
القطارات: الفوز بالزمن والخروج إلى المغامرة الإنسانية
[post-views]
نشر في: 2 نوفمبر, 2013: 11:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...