الكتاب : تواطؤاً مع الزرقة شعر : حسب الشيخ جعفر الحجم : من القطع المتوسط ( 237 ) ورقة الناشر : دار المدى الطبعة الأولى 2011 المجموعة الشعرية لحسب الشيخ جعفر ، ضمت 123 نصا" ، وكما هو معهود ، كان طابع هذه النصوص أو ال
الكتاب : تواطؤاً مع الزرقة
شعر : حسب الشيخ جعفر
الحجم : من القطع المتوسط ( 237 ) ورقة
الناشر : دار المدى
الطبعة الأولى 2011
المجموعة الشعرية لحسب الشيخ جعفر ، ضمت 123 نصا" ، وكما هو معهود ، كان طابع هذه النصوص أو القصائد صوفيا" و مترعا" بالحنين إلى الماضي ، ربما جاءت إهداءاته للنصوص ، تعزيزا" وتقديرا" لأدباء و أشخاص و مثقفين ، لهم من الذكريات معه أو أن مثل هذا الإهداء جاء من باب الإعجاب أو حتى من باب اللقاء الحُلم ، أو أن مواقفهم الشخصية تجاهه استحقت الإهداء .
الشاعر عبر نصوصه هذه ، يتخذ من التعفف و الفضيلة كجوهر في إعلان صوفيته و ( رهبنته ) ، فهو يبتدع الصور ثم يتحرك في إطارها ، يلتقط الصور و يكوّن حركتها و ديناميتها ، لا يتخفى وراء صوره ، بل يوجهها إلى مشتهاه و مبتغاه ، فهو ينعزل في صوره ، لكن هذه الصور تتحرك في الاتجاهات التي يرنو إليها الشاعر ، ويكاد أن يقول ، هذه نبضاتي و تداعياتي و انكساراتي ! .
(( غير أني ، و قد عدت ، بعد الإجازة ،
من رحلة ما ،
التقيت بها ، في فراشي ، راقدة
فاستعنت بجارية البيت ، اقترحت
أن أنام إلى جانب مارية
فإذا استدارت ؟
فكن حدّيا" و توخّ السكون ! ))
تضوع نصوص المجموعة برائحة الحياة اليومية ، و هي بالتالي تدوين ليوميات الشاعر و ذكرياته في الماضي عندما كان في موسكو ، أو في الماضي القريب أو حتى استعارة الماضي البعيد ، و التي ينحو فيها الشاعر منحى متصوفا" كما أسلفنا ، بيد أنه في انعزاله و ابتعاده ، قد اتخذ من هذه العزلة للتأمل الروحي ، لسبر غور عالمه المتخيل ، عالمه الذي ينتشر توجعا" بين محطات ذكرى ، تبدأ من مدينة مسقط رأس الشاعر العمارة ، و ترحل به إلى موسكو حيث يتعانق معها أيديولوجيا" لسنوات عدة ، قبل أن يعود إلى بغداد التي يرحل منها إلى عمان منكسرا" و محبطا" .
لا يجد في عزلته المستمرة سوى شرابه أنيسا" ، فيجعل منه شريكا" في عزلته و غربته و نصوصه الضاجة بالحزن و الفجيعة والاستذكار ، و ليس هنا الشراب إلا رمز الشاعر في إعلان التمرد و الرفض و المعارضة ، تمرد صامت ينطقه عبر مفردات هذا النص أو
2
ذاك ، لكنه يعلن في أكثر من نص ، إنه رمزه الروحي ، هذا الرمز الذي يتجسد في مفردات و جمل و إعلانات و إحالات و توصيفات ( ابتع كونياكا" ، بينما البيرة الفاترة ، رائحة الجعة ، أرهقها سكر وسعال ، أضغاث خمور ، كان خمارة يتهاجى بها الشعراء ، أغرك السُكرُ مني ، ستذوق خمرا" لم يذق منها سواي ) .
فالشاعر هنا في تجسيد رمزه الآنف ، لا يتردد في أن يتموضع في ( خمارة ) أو يكون في ( كأس جعة ) أو في ( السكر المرهق ) ، و الشاعر هنا لا يطرح نصه و يمضي ، بل يتموضع و حيدا" ، معلنا" من خلال نصه و رمزه الذي يضوع رائحة رفضه الصامت .
(( و الطريق
في اتجاهين :
برج الكنيسة و القبو
( رائحة الجعة ، السمك المتجلد
و الجُدُر المغضبة )
فإلى أين ؟ ))
دائما" و في أكثر من نص من نصوص الشاعر ، نرى تساؤله : ( إلى أين ؟ ) ، و مثل هذا السؤال أو التساؤل ، يعرض لنا صورة عن حيرة و ضياع و قلق الشاعر ، فالمحطات و المفترقات كثيرة في طريقه ، و كلما أراد الخروج و الانطلاق من صومعة العزلة والانكفاء ، حتى دهمته مصدات مانعة ، فيعود القهقرى ، فتبدو نصوصه في المجموعة مترددة و خائفة ، تتمرد في الصمت ، بيد أن هذا التمرد يشع تظاهرا" في هذه النصوص .
و لذلك ، فإن كل مظاهر التمرد و الرفض و المعارضة ، تتمثل لدى الشاعر في الصور الشعرية التي تعكس حنينه إلى الماضي ، الماضي المترف آيديولوجيا" ، و من هذا فكل نصوص الشاعر تقف وراءها أغراض سياسية مؤطرة بالتداعيات الذاتية و الحياة اليومية ، و التوصيفات الاستذكارية ، و ربما تكون التوجعات الذاتية ، هي مرآة للإحباطات السياسية و الأيديولوجية بالنسبة للشاعر .
(( قصر هرم
يتحوطه الدرب الأغبر
لم يقطنه إلا الصمت الأصفر
منذ انتحرت في القبو
السيدة المخبولة و ارتحل الخدم .. ))
يمنح الشاعر ذكرياته في موسكو حيزا" واسعا" في نصوصه ، وهذه الذكريات بقدر ما هي أثيرة على الشاعر ، بقدر ما هي تعيد الشاعر إلى أوجه الأيديولوجي عندما كان طالبا" ، فالنصوص وسيلة معبرة عن الذكريات و الطموحات السياسية ، و هي أيضا" معبرة عن تداعيات و إحباطات الشاعر في نفس الوقت ، و هي بالتالي رجع بعيد ، مثلما هي تمثل انكساراته و توجعاته في الحاضر ، هذا الحاضر الذي ظل يقيده بالترحال و الضياع .
3
وعلى العكس من رحلته إلى موسكو ، كانت رحلة الاغتراف الأيديولوجي و القرب من المنهل و الاستيقاظ في واقع ( الحلم ) ، الحلم الذي كان ينتشي به عندما كان في صباه في ريف العمارة ، هذا الحلم الذي ربما تبدد لديه ، عندما يرحل إلى عمان ، ثم يعود إلى بغداد ، حاملا" أثقال إحباطه المتجدد و سيل من الذكريات .
(( و تلمست منها يداي
كتفا" ، ذراعا" ،
و هي تضحك ..
لم يزل منها على جلدي احمرار فم
و زرقة عضة متجدده ! ))
في هذا النص ، يكشف الشاعر انتقال رمزه الروحي الآنف إلى رمز جسدي ( زرقة عضة متجدده ) ، و بهذا الانتقال يكون الشاعر ، قد بلغ من الإحباط مبلغا" كبيرا" ، و ليس من المستبعد أن يكون وراء هذا الانتقال ، هو الإعلان عن هزيمته ، الهزيمة الروحية أولا" ، و الهزيمة الجسدية آخرا" ، و هو في نفس الوقت يعلن عن تحوّل في رموزه ، مثلما يعلن عن اضطراب رؤيته ، هذا الاضطراب الذي جعله في تيه الترحال و الانتقال ، قبل أن يعود إلى انعزاله وتقوقعه من جديد ، ربما يكون ترحاله الأخير رحلة بحث جديدة ، لكن عودته إلى بغداد من جديد أيضا" تمثل عودة مهزوم .
حسب الشيخ جعفر ، لا يستطع الخلاص من عالمه المنعزل ، و لا يستطيع أيضا" ، من خلال هذه العودة الانقطاع عن التساؤلات .
(( فلماذا الخروج ، و لا أحد في انتظارك،
لا أحد أو فتاة
قد تضاحك نظرتك الغائمةْ
بتلافيف ( فلسفة ) قاتمةْ
أو تقاسمك الرشفة المرتجاة ؟
فلماذا التأفف مبتئسا" ؟
و لماذا الضياع ؟ )
تطغى على لغة النصوص ، الاستذكارات و الإهداءات ، و كأن الشاعر أراد أن يجعل من همه تناصّ" مع الذين ذُكرت أسماؤهم في هذه الإهداءات ، و يأتي مثل هذا الأمر أيضا" من باب المواساة و التعزية و جبر الخواطر ، إلا أن عمق هذه الإهداءات والاستذكارات ، جاء في التي كانت موجهة إلى الراحلين ، كما هو الإهداء في ذكرى الجواهري ، فهذا الاستذكار كان مناسبة لمزج هم الشاعر مع هموم الجواهري في حياته ، مثلما هي مناسبة لتجديد و إثارة هذه الهموم من خلال هذه الذكرى .
(( في أيّما بلد
قيل : ( الفراتان ماتا في العراق ) فهل
أبقت لنا الضفة الزوراء من أحد ؟ ))
4
هذا التساؤل المهموم ، يكشف الصور التي تنوعت بها هذه المجموعة ، كما يكشف مرة أخرى عن وجع الشاعر المتمثل في الخيبة و الإحباط ، و على هذا المسرى و الاتجاه ، يأتي إيقاع نصوصه في المضمون و الانتقالات الصورية في الرمز و المدلول معا" ، ليشكل الشاعر في مجموعته هذه ، إضافة شعرية أخرى إلى تجربته الشعرية ، التي توزعت بين القصيدة المدورة و النص اللمحة ( القصير ) ، ليعزز بالتالي ألق الشعر العراقي الحديث في موجته الستينية ، التي أعقبت موجة رواد الشعر العراقي الحديث ، و قد كان و مايزال حسب الشيخ جعفر شاعرا" مهموما" في تعزيز بناء القصيدة الستينية الحديثة في التواصل و الابتكار .
ربما تكون مجموعة حسب الشيخ جعفر هذه ، صورة تعميمية وتخصيصية في آن ، أي أنها طرحت الخاص و العام ، بصورة المأساة و الفجيعة و الاستذكار ، فكانت نصوصا" قصيرة و ذات لمحة معبرة و مجسدة كل الهموم و الأوجاع والرثاء .
حسب الشيخ جعفر ، يحاول استنهاض الشعر الستيني إلى ربيع الألق و السمو و الازدهار ، بيد أنه يعترف بمجيء الخريف ، هذا الخريف المتوزع في مدلولاته و رموزه ، إلى الحد الذي يجعلنا نحن أيضا" نتساءل : عن أي خريف يتحدث الشاعر ، عن خريف الشعر أم عن خريف الشاعر أم عن خريف الوطن ؟ !
(( جاء الخريف الشيخ حطابا" بلا فأس
كما يخلو الهنود الحمر ،
في الشفق البطيء ،
إلى رماد حرائق أخرى ))
قراءة : عبد الزهرة الركابي