انشغالات البلد بمتاعبه المرحلية ومفارقاته السياسية وتقاطع الثقافات والمصالح ..، تحيط بالمثقف فتحجب عنه الأفق الإنساني والمستقبلي الرحيب لينشغل، شاء أم أبى، بما يحيط به ويؤثر في عيشه وبحوثه ولا نقول آفاق سعادته، فالحمد لله إذا سلم وتعافى. ولهذا ظلت ثر
انشغالات البلد بمتاعبه المرحلية ومفارقاته السياسية وتقاطع الثقافات والمصالح ..، تحيط بالمثقف فتحجب عنه الأفق الإنساني والمستقبلي الرحيب لينشغل، شاء أم أبى، بما يحيط به ويؤثر في عيشه وبحوثه ولا نقول آفاق سعادته، فالحمد لله إذا سلم وتعافى.
ولهذا ظلت ثروات ورثناها وأخرى لانزال نمتلكها من تراث شعبي ومن نظريات واجتهادات فكرية ورؤى وحتى ثروتنا من المهارات الفنية في المعمار والطبابة .. كلها ظلت متفرقة ضائعة من دون تصنيف، من دون أرشفة وطبعا من دون دراسة ، ومن دون إعادة قراءة ونظر . هذا يعني أن عقوداً من السنين التي مرت لم تترك لنا مراجع تعتمد، أو سلسلة مجلدات أو أعمالاً كبيرةً تريح الباحث وتعينه على إيجاد المعلومة أو على معرفة رأي المتخصصين بها.. وهكذا أضاعت إشكالات الحياة المدنية وظواهر العيش وعموم الحياة "العامة" فرصنا الشخصية كما افتقدنا كشوفات حركة الأفكار والاجتهادات التي أضاءت في ضباب وغيوم تلك الأزمنة.
الأرشفة الحديثة أو جمع الوثائق والبحوث أو متابعة الأفكار وإعدادها، عمل موسوعي في جانب منه يهيئ مادة للدرس المستقبلي ولمعاهد البحوث كما يفيد في عملية التطور والمعاصرة ،وهذه لا تقتصر على الأشعار والحكايا ، كما هو الغالب عندنا ، بل هي تشمل كل الموضوعات من أساليب وآليات الفلاحة إلى نظريات وأساليب الحكم والجباية إلى المعتقدات ومصادرها والمؤثرات فيها ثم المشاكل والأفكار التي تفرزها المراحل.
ولكي تكون الأرشفة علمية ، نحتاج إلى رؤية المؤلف المثقف . نحتاج إلى عقل وطني. أعني هنا بالعقل الوطني الذهنية المتفوقة التي تنظر لكل الأحزاب ، صديقها والخصوم نظراً علمياً محترما فأنت تسجل معلومات للمستقبل ويجب أن تكون مؤتمناً على البلاد كلها وعلى ناس البلاد كلهم.
أنت رسول ناقل أمانة لعموم ناس الحاضر ولناس المستقبل . فما قد تكون متحمساً له اليوم قد تأسف له غدا ،وما لا ترتاح له اليوم وتكرهه أو تتهمه قد تجد له أسبابا عقلية وظرفية ترضيك.
شخصياً ، أعتقد أن المستقبل سيضحك من حماساتنا الفارغة وسيدين هذه الشراسة في التعامل والحدية في الأحكام وسيكشف كم نحن متخلفون مرضى أخلاقيا وتربوياً كنا!
لا أريد ان أسترسل في هذا ولكن أردت ان أبدي ابتهاجي بمؤَلف الأستاذ د. مهدي الحافظ إذ قدم أُنموذجاً مما نتمنى ان يتسع وأن نرى المزيد من هذه الإعدادات والإسهامات في موضوعات زماننا كلها. لقد جمع خبر ما قيل في أهم موضوعات المرحلة بنوع من الأرشفة الموسوعية بعلمية وبأخلاقية ودراية الباحث المتوازن، وتبنى هو دراسة الجوانب التي لم يتصدَّ لها احد فأكملها بأفكاره وبأفقه العلمي ونظرته، نظرة المتخصص والقريب إلى التجربة. كل ذلك لكي يرينا نحن اليوم ولكي يوصل للمستقبل ما قد يضيع عنا وعن الأجيال القادمة، وهي لا غيرها من سيعيد بناء البلد بإنسانية نظيفة وعلم بعيدا عن فوضى الأحقاد والخَبَل الفكري..
هذا الكتاب (روح العصر ومسارات التحول في العراق) جمع دراسات للظواهر التي برزت في عملية التغيير السياسي، تغيير الحكم، وما ارتبط بالقضية الوطنية. كما تناولت موضوعاته الاحتياجات المدنية والاقتصادية وقضايا الدستور والديمقراطية والاستثمار وحقوق الإنسان والمتطلبات الفرعية الأخرى مما أفرزته أو منحته السنوات التي أعقبت التغيير.
الكتاب بما احتوى عليه، حصيلة ثقافية تشكل مصدراً لأي مثقف يريد الحديث عن العراق وظروفه المدنية، كما أنه يقدم ثقافة عامة لأي متحدث عن الوطن بعد التغيير...
إن صفحاته التي ربت على السبعمئة صفحة وثَّقَتْ لإشكاليات الحياة المدنية الجديدة بما قدمته من أوراق وبحوث ومحاضرات لأساتذة متخصصين ولأفكار وآراء الدكتور الحافظ فيها، جعلته كتابا للثقافة الوطنية العامة ومرجعا علميا موثقا للدارسين.
فضيلة أخرى ، يقدرها أهل الدراسة والبحث انه لَمَّ بين دفتيه الموضوعات المتفرقة للظاهرة العراقية في مجلد محترم واحد وفر على الباحث جهد الحصول على رأي معاصر للظاهرة ووثيقة يستند إليها. وهذا عمل مجيد يُشكر عليه مُعِدُّ الكتاب والمسهم فيه، كما يشكر على مسعاه للاحتفاظ برؤى اليوم عن القضايا الوطنية ومتطلبات الحياة الجديدة. لي ملاحظة تخص المؤلف المعد وحده، تلك هي انه أسهم في الكتاب بالعديد من الدراسات بأكثر من ورقة وملاحظة عن القضايا التي كانت موضع لاهتمام. ما أراه هو ان نرى مهدي الحافظ في كتاب يجمع ملاحظاته وأفكاره ورؤاه لواقع هذا البلد ومستقبله وألاّ تظل هذه الأفكار والرؤى متفرقة في هذه المجلة وذاك الكتاب ومحاضرة هنا ومداخلة هناك. بهذا تظهر شخصية الكاتب المتخصص ولا تضيع جهوده في الشتات..
لقد وضعنا الكتاب أمام الإشكالات الرئيسة والحقيقية التي واجهت مشروع التغيير (أو الرغبة في التغيير)، ابتداء من الدستور إلى الاستثمار وقضية المرأة والسياسة النفطية والفيدرالية وحقوق الإنسان والنزاهة وإصلاح السياسات المالية.. لينتهي إلى الأسباب الحقيقية لتعثر التقدم الديمقراطي والتطوير الاجتماعي والاقتصادي للبلد وهي مجموعة مؤسفة من الإشكالات والإعاقات ندرك أسباب استمرارها وننظر لها بأسف صامتين.