TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في عشق الأولياء المذبوحين

في عشق الأولياء المذبوحين

نشر في: 9 نوفمبر, 2013: 09:01 م

أنا رجل فقد رغبته في التعبير عن الفرح، يقول تأريخي العراقي باني أنتمي لسلالة المذبوحين في المعابد، والطريق الى بيتي تمر بعشرات المزارات والاضرحة، يقول كاتب بصري بان ضريح ابن سيرين كان ضفة نهر الأبلة وأن الناس تأخذ الماء منه للتبرك. تغمض الحكومة أعينها عن اختفاء غابة النخل التي انتمي اليها، البصرة لم تعد وطنا لي لذا أفكر جاداً في مغادرتها، وترك الانهار والنخيل وشجرة الهنبة (المانجو) التي غرستها وفسيلا الخستاوي اللذين أهدانيهما صديقي الشاعر عمار المسعودي من بستانه الجميل في كربلاء.
هكذا انا ومنذ سنوات أقارع فكرتين تراودانني واحدة تقول بالهجرة النهائية ومغادرة العراق إلى غير ما رجعة، وأخرى تقول بمغادرة وقتية إلى كردستان او بيروت في أقل تقدير، ذلك لأني ما عدت احتمل مشاهدة أحلامي وهي تتحطم على أيدي مجموعة لا يعنيها تاريخ وإرث وحاضر ومستقبل مدينة مثل البصرة، وقد كتبت وغيري الكثير الكثير سعيا وراء تغيير الصورة، لكن ذلك ذهب أدراج الرياح. وما يحطم قلبي، أنا المبتلى بحب المدينة هو تراجع منظومة القيم الأخلاقية بين الناس، ناسي الذين أفنيت عمري في سبيل رؤيتهم أكبر وأنبل وأرقى.
بسيارته الحديثة، غالباً ما يصحبني أبني في مشاوير قصيرة داخل المدينة، نقضي فيها حوائج البيت، أستمتع بمشهد شط العرب وحركة الناس عليه، بالسفن الغادية والرائحة فيه، ويسرني مشهد الناس وهم يتبضعون من الأسواق الكبيرة، المولات التي انتشرت في المدينة مؤخراً، في الليل تبدو المدينة أجمل، شوارعها تبدو اكثر نظافة تحت أضوية النيون العالية، وساعة يخف الازدحام اشعر كما لو أني في مدينة ثانية غير التي مررت بها في النهار، لكن المدينة هذه تنقلب وجهاً على عقب في أيام العاشوراء، حتى ناسها تتغير طباعهم وهم على كرمهم وطيبتهم المعهودة. هناك مفاصل تبدو معالجتها بسيطة جداً، إذ من غير المعقول أن تقوم جماعة من الشباب والمراهقين بقطع او غلق الطرقات لا لشيء إلا لأن الموكب الفلاني يمر من هنا، أو لأنهم يوزعون الطعام ويستوقفون السيارات بشكل مرتجل فيما يتمكن هؤلاء من تنظيم طريقة الطبخ والتوزيع ومرور المواكب.
قبل عامين كنت في بيروت وصادف ذلك في العاشوراء من المحرم ، لم أر هناك مشهداً يعاب لكن مظاهر الحزن كانت واضحة، المركبات تمر وتُسمع منها أصوات المنشد باسم الكربلائي، الناس بكامل زينتهم لكن مظاهر الحزن بادية على الجميع لم تغلق جماعة ما شارعاً، والسوق كما هي بنظافتها، ترى لماذا يقترن العاشوراء لدينا بكل ما هو غير اعتيادي، لماذا لا يكون حزننا بمستوى وعينا لقضية كبيرة مثل قضية الحسين، ولماذا تغيب الحكومة عن رعاية وتنسيق مؤتمر كبير كالذي نراه كل عام ونحن نحيي ذكرى تاريخية كبيرة، ولماذا لا يكون الاحتفال على المستوى الرسمي أكثر تحضراً؟ كانت صورة القادة السياسيين (إبراهيم الجعفري، عمار الحكيم، عادل عبد المهدي وسواهم) وهم يخوطون القدور ويوزعون القيمة واللحم، بلا اناقة. ترى لماذا لا تقوم جهة ما (سياسية ،دينية، وطنية...) بابتكار طريقة حضارية تنسجم مع روحنا العراقية في قراءة مشاهد مثل العاشوراء؟ هل يمكننا تصور مشاهد الحزن البابلي وهي تجوب شوارع بابل وتدخل المواكب بوابة عشتار، أو بصيغ أخرى كرنفالية لا تشذ عن آلية التعامل مع المقدس، بما فيها التعامل مع الورود والهدايا بعيداً عن مشاهد الدم والتطبير والضرب بالسلاسل؟
يقول رئيس لبناني سابق أظنه سليم الحص:" هناك فيض من الحريات وقليل من الديمقراطية" في تعبير عن سوء الوضع العام في لبنان.وفي السابق كانت مساحة الحرية أضيق من أن توصف، وفي غياب كامل للديمقراطية، فقد كان التعبير عن الرأي والفكر والمشاعر محظورا على الجميع، أما الاحتفال بالعاشوراء فقد ظل ممنوعاً مقموعاً لكن فيض الحريات الذي هجم علينا بعد العام 2003 لم ينظم بما يجعل من فسحة الحرية فضاء نعمة، بعد أن قضمت المجاميع السياسية الدينية المضطَهدة فسحة الحرية المتاحة للجميع، منفردة بذاتها على حساب كل شيء، وقد تجد العذر لنفسها من خلال عمق عمود الظلم الذي كان مسلطاً عليها، لكنها لا تملك العذر في مصادرة حريات الآخرين. أنا لا أعاني من ذلك بشكل شخصي لكني اتحسس روح الآخر من غير ابناء الطائفة الشيعية في مدينة يقطنها أكثر من نصف مليون سني.
على كاهل الحكومة الفدرالية والحكومات المحلية تقع مسؤولية تنظيم الشعارات واليافطات التي ترفع وطريقة تقديم المشهد الحسيني وتسويقه للعالم بما يليق بنا كأبناء حضارة يشكل مشهد الحزن أحد صورها في الذهن الكوني، ذلك لأننا لم نعرف بحسن تقديمنا لمشهد الفرح. العراق بلاد طبعها الحزن بطابعه وتفننت يد الآلام بحياكة نسيجه المجتمعي، لذا فلنحسن صياغة صورته تلك ولتتقدمنا مواكب الحزن وعشق الأولياء المذبوحين، ولا أجد في ذلك نقيصة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

القضاء يحسم 853 طعناً على نتائج الانتخابات

الداخلية: العراق بنى منظومة متطورة لمكافحة المخدرات

التخطيط تتجه لتوسيع الرقابة النوعية لتشمل الصادرات والواردات عالية المخاطر

قبول 1832 طالباً في المنح المجانية لكليات المجموعة الطبية

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram