"لا بأس لا بأس" قال لنفسه وهو يلهث ويرطّب حلقه اليابس بلسانه (لم يعد ثمة ماء في الزمزمية) بينما يتسلق السفح نحو قمة لا يراها. سقط غراب تحت قدميه وكاد أن يدوسه، لكن الغراب تحول إلى باذنجانة بجناحين سرعان ما طارت.
حقيبة الظهر مليئة، تشبه كردستان، بكتاب وبندقية وقليل من الجوز.. مثل عبدالله كوران وهو يتحدى العالم.
السفح، السفح، دائماً هو في السفح، حتى عندما كان في بغداد طفلاً يلعب بالكلمات، الكلمات التي ستشكل ما يتبقى من حياة الوادي التي خلفها وراءه.. لست نسراً لأعانق القمم، أنا خروف مسالم يكتفي برنين الجرس المعلّق برقبته ويطرب.
عند الغروب يبدأ ليل آخر، قال: لننتظر الفجر.. ثمة ناس، دائماً، ينتظرون الفجر وناس ينتظرون الليل.
هذه البندقية التي تلتصق بجلده غريبة عنه، تأمّلها عند الاستراحة، وهو يدخن، فارتعشت أذناه لأنه سمع صوت إطلاق رصاصة من دون أن يضغط على الزناد.
صحراء التتار؟
صحراء في منطقة تتألف من جبال!
تركض الصحراء نحو نفسها لتكون جبلاً بينما الوادي ضحية، لأن لا جبل بلا وادٍ.
الذاكرة، هنا، عنصر مقاومة!
ورقة شجرة يابسة مطمورة في الثلج، نبشتها.. رفعتها إلى أنفي لأشم رائحة جلد بشري مسها وهو يعبر الغابة مهرباً الرز للأنصار، أو أثناء عودته ليكتب تقريره إلى الحكومة، وتحت الثلج، عادة، ثمة عظام لكرد وعرب وآشوريين وإيزيديين وصابئة وسريان وأرمن وشيعة وسنة وكركه ومانويين ولا أدريين وإخباريين.. جنود وبيشمه ركه وبغال قتيلة أو نافقة.
لسنا ملوكاً لنفسد القرية، إنما فرسان من العصر الحديث، مزودين بأسلحة لا نستخدمها إلا للضرورة القصوى: الدفاع عن النفس، حتى عندما نقتحم ربيئة عسكرية للجيش.
على ضوء فانوس نفطي اكتشف أن ورقة الشجرة المدفونة تحت الثلج هي مخطوطة كتبها شاعر كردي اسمه عبد الله كوران وكان عليه ان يبعث بها إلى حفيده.. حفيد كوران.
- لم أجد حفيده، قال.
- حفيد حفيده، قلت أنا رغم أنني لست واثقاً من رعشة يدي.
عندما التقيت حفيد حفيده في قرية اسمها (بيتوش) سلمته المخطوطة وأخبرته بأنها من جدّه الشاعر.. نظر إلي بعجز، كان حاجباه خائفين، طمأنته، لكنه سعل قبل ان يجيب: أنا لا أعرف القراءة! لا مدارس لأطفال القرى البعيدة في كردستان، أوضح حفيد الحفيد.
أخذت المخطوطة منه خوف أن يهملها لكنه استدرك الحال قائلاً : عندي عم شاعر اسمه عبد الله بشيو لا أعرف أين يسكن، يقولون انه يعيش في قرية بعيدة جداً لا اعرف اسمها، ولأنه شاعر لا بدّ يعرف شيئاً عن المخطوطات، مخطوطات الشعراء.
حسناً، قلت، قبلته على جبينه كما نقبل الأيتام، ووضعت في راحته الصغيرة حفنة من الجوز ومضيت.
مضيت ضارباً في الصخر والثلج وبندقيتي تحك كتفي أنا الجاهل في السلاح حتى لو كان موسى حلاقة، هم قالوا: لا بد لك من بندقية، وانا قلت، من دون أن يستمع لي أحد: لا بدّ لي من معرفة.
أفطرنا، صباحاً، بعد حراسة قلقة، على لبن وخبز وشاي، في بيت فلاح يكره المسلحين، بعد ان يئس من الثورة: نطعمكم منذ نصف قرن ولم تطعمونا ساعة واحدة.
سنطعمكم ذات يوم. قلت.
قال وهو يلف سيجارته: متى "ذات يوم"؟ كلكم تقولون هذا، نريد خبزاً، اليوم، لا ذات يوم.
الترجمان تلعثم وأنا خرجت لأشم الثلج.
الوادي تشكّى مثل عانس تحوّلت صخرة: هل كُتب عليّ أن أُمضي حياتي محاصراً بين جبلين؟
الباذنجانة التي طارت حطّت أخيراً.
من دفتر الجبل
[post-views]
نشر في: 11 نوفمبر, 2013: 09:01 م