2
كانت البطاقات البريدية (المعايدات) التي واظب أبي على إرسالها من بغداد، تبهر صديقات أمي، خاصة الصور التي ارتسمت عليها، فكانت تسمح لها بالذهاب في خيالهن بعيداً، بالتأكيد تأخذهن إلى مدينة أخرى، غير المدينة التي يعشن فيها: العمارة، بالضبط كما كان يحدث لي أنا الآخر في كل المرات التي قلبت بها الصور تلك أمامي. النساء، صديقات أمي، اللواتي لم يخفين دهشتهن، يفتحن أعينهن بكل سعتها، يطلقن آهات تعجب متلاحقة، ويبدأن بالحديث عن الصور بصوت عال، وهن ينقلنها من يد إلى يد، أو عند بقائها في يد إحداهن، لتضعها وسط الحلقة التي جلسن عليها والأخريات يتطلعن في الصورة بفضول. "واو" يهتفن، "كم نحسدك على ذلك، يا أم نجم"، وأمي التي يمكن رؤية الشعاع الذي يلمع في عينيها من الفرحة، من الفخر، تنظر لهن بامتنان، محرجة في أحاييين كثيرة، فتلجأ إلي مداعبة شعري، أو تطلب مني، أن أذهب إلى دكان طه لبيع المرطبات في الدربونة المجاورة، لكي أجلب قناني بيبسي أخرى، النساء لا ينتبهن لذلك، لأنهن مشغولات بالتطلع بالصور، بافتراسها. هناك تعليقات. دائماً، هناك حكايات. أرى أمي فرحة، فأغفر لها أنها عرضت البطاقة البريدية على صديقاتها قبل أن تعرضهاعليّ، لكنني ورغم الحزن القليل، أو رغم أنانية الأطفال المعروفة، التي يصرون عليها دون أن يعرفوا عواقبها، لم أركض إلى أمي وأخطف الصورة، أكتفي بمراقبة المشهد، فرح أن الصورة هذه التي أدهشت صديقات أمي ستنتهي إلى دفتري الأنيق إلى جانب الصور الأخرى، وأن الحكايات التي تنسجها النساء، لن تفقد بجمالها وبدهشتها، القصة التي سترويها لي أمي لاحقاً، عندما نكون وحدنا مع البطاقة البريدية "المعايدة"، سواء عند جلوسنا في ساحة البيت أو في الصالون، مباشرة بعد خروج النساء، أو لاحقاً، في الليل عندما نذهب للنوم، لأن أمي، وحتى ولادة أختي نوال، كانت تنيمني إلى جانبها، في كل الليالي التي يكون فيها أبي في بغداد، حيث تمسك المعايدة بين يديها عالياً، ثم تبدأ برواية القصة، وهي تشير للصورة التي أرتسمت عليها، وبعد سنوات، ستقول لي، كيف أن الحماس كان يأخذها في رواية القصص، وهي تمسك بالمعايدة. تروي وتروي، كأنها تحاول تطبيق ما تعلمته في المدرسة في دروس الجغرافية أو التاريخ على الصور، أو كأنها تعوض شخصية معلمة المدرسة التي كان يجب أن تكون عليها، لولا أنها ما أن انتهت من دراسة الثالث المتوسط، وهيأت نفسها للدخول إلى دورة تعليمية للمعلمات سريعة، حتى قال جدي، ، المفتش في شركة التمور العراقية في البصرة، لا بنت تعمل عندي، فقط أردت أن أبين للعالم، أن ابنتي قادرة على ذلك، لكنها رغم ذلك ستبقى في البيت! أمي التي ظلت تتحسر على فقدانها فرصة العمل معلمة، عوضت ذلك بي أولاً، طريقتها وهي تريني البطاقة البريدية، هي طريقة المربية المتعلمة، وليس المربية الأم في الغريزة، وكانت عندما تلتفت إليّ، لكي ترى الانطباع الذي يتركه ما تحكيه على وجهي، تكتشف أنني نمت، فتقبلني، تضع المعايدة تحت الوسادة، وتقول لي: معايدة قادمة وقصة جديدة. ذلك كان هو ديدنها. قصص عديدة تلك التي روتها لي أمي، بعدد المعايدات، التي تلف بعضها مع الزمن وضاع مع ضياع المعايدات، وبعضها بقي مع بقاء الذاكرة. مع بقاء بغداد. والأكثر رجحاناً مع بقاء أمي؛ لأنني في زياراتي الأخيرة لها، جلست معها وذَكَّرتها بالحكايات تلك، أو ذكَرّتني هي بما نسيته منها. لولا إلحاحك، تقول لي، ربما ما تحمست لرواية القصص تلك أي خيال؟ تقول ضاحكة وهي تتأفف. أية حقيقة؟ أجيبها!
يتبع
البطاقات البريدية القادمة من بغداد
[post-views]
نشر في: 12 نوفمبر, 2013: 09:01 م