قضيت عطلة "الطبك" باستذكار المراسم الحسينية في أيام الخير كما يسميها الصديق خالد القشطيني. قد يصعب على البعض فهمي لو قلت انها ذكريات أشعرتني بالسعادة. عدت وكأني هناك أشم رائحة ماء الورد وتطالعني عيون الشابات اللامعة بالدمع الذي حوله الكحل المذاب بفعل البكاء الى لآلئ سود. الناس كانوا بسطاء لا يبتغون من إحياء تلك المراسم جاهاً ولا مكانةً ولا مالاً. كانت طقوساً روحية بامتياز.
شّدني حنين الى الاستماع للمقتل بصوت الرائع الشيخ عبد الزهرة الكعبي. ومثل اغلب العراقيين تنتابني حالة من الشجن عندما يكحل الكعبي مقاطع من المقتل بنواعيه الشعبية. تساءلت: لماذا لا يتم المقتل تأثيره بدون الأبيات الشعبية العراقية؟ هل ذلك نوع من "التعريق" وفق المصطلح الذي يستعمله المسرحيون؟
التعريق في المسرح يعني، في الأغلب، تحويل النص المسرحي من اللغة العربية الفصحى أو أية لغة أخرى الى اللهجة الشعبية العراقية. وان يرى البعض أنها مهمة بسيطة، لكنها في الحقيقة من أصعب المهمات التي تحتاج حساً إبداعياً خاصاً لدى من يقوم بها. أغلب النصوص "المعرّقة" تفشل لأنها تكون كما الترجمة الحرفية للنص. فهناك من لا يتعب نفسه ويكتفي بتحويل لماذا الى ليش، وأين الى وين، وما الذي دهاك؟ الى شبيك؟، وهكذا. أما المبدع فهو من يضفي روحا جديدة على النص من خلال استحضار الوعاء النفسي والاجتماعي للهجة التي تحول اليها النص الأصلي. باختصار انه يضع في باله نفسية الجمهور المتلقي وذائقته وهمومه وحتى درجة وعيه.
شاعران حسينيان، ان صحت التسمية، تفوقا في تعريق قصة مقتل الإمام الحسين. لم يكتفيا بترجمة أحداث واقعة الطف الى الشعبي بل أضافا عليها روحاً جديدة حولت القادمين والقادمات من ارض الحجاز الى العراق الى أبطال عراقيين وكأنهم ولدوا ونشأوا وتربوا على ارض العراق وبين ناسه. انهما الشاعران محمد نصار العراقي وعبد الحسين ابو شبع النجفي.
أغلب قصائد عبد الحسين أبو شبع الحسينية تعتمد على تعريق أحداث كربلاء. وان كان الرجل قد ابدع في الكثير من قصائده، إلا اني أراه في تناول مقتل القاسم ابن الحسن قد تفوق على نفسه وعلى غيره من الشعراء في مهمة التعريق. خيال خصب حقا ذلك الذي جعل من القاسم عاملاً كادحاً يغبّش للعمل بهمة كي يعود ليضع ما حصل عليه من أجر بيد أمه لا بيد زوجته. حركة لا تفهمها غير الأم العراقية:
تبني البيت لمّك والجعيدة امّك
تصابحني وتجيب الواجب بصمّك
كلما اسمع هذا المقطع ترتسم أمامي صورة جارتنا ام سعيد اليتيم التي ليس لها أخ ولا أب وكيف كانت تنتظر عودة ابنها من العمالة ليعطيها نصف الدينار فتشعر وكان رأسها قد طال النجوم افتخارا.
ذات يوم جاءنا الخبر ان سعيداً قد دهسته سيارة، وليتكم لم تشاهدوا والدته في لحظة تسلمها خبر موته. كانت صرختها الوحيدة: ليش يا ربي ليش؟ الغريب ان ابنها سعيد نفسه كان يعشق لطمية " آ يبني شگول عليك آ يبني؟" لأبي شبع. تركها ابنها وراءه فصارت هي غذاءها ليلا ونهارا. ومن كثرة استماعها لها بصوت الرادود جاسم الطويرجاوي الذي كان يصلني صوته كل يوم من الصباح حتى الليل حفظتها. كانت تثغب حين يصل الرادود الى:
يبني الفاجدات أكثرهن مخلفات
وما يدرن تموت ام الولد لو مات
وفعلا ماتت أم سعيد بعد اقل من ثلاثة أشهر. أتفعل ذلك غير العراقية؟ أشك.
لي حديث عن الشاعر الثاني فيما بعد.
آ يبني شكول عليك آ يبني؟
[post-views]
نشر في: 17 نوفمبر, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 2
احمد الحسن
اراك نسيت الشاعر الكربلائي المرحوم كاظم منظور صاحب قصائد ( جابر يجابر والميمون وغيرها من المعلقات )
ابو مرتضى الفتلاوي
الاستاذ الدكتور هاشم العقابي المحترم تحية طيبه ... من العراق المترنح بين الغريق والحريق , ورد في عمودكم المعتاد في جريدة (المدى) النيره ابياتا شعرية نسبتموها الى الشاعر عبد الحسين ابو شبع بينما هي للشاعر المرحوم عبد الامير الفتلاوي وان اغلب الاشعار ال