تحتل النواعي، ومن ضمنها ترنيمات أمهاتنا في أغاني "الدللّول"، مكانة مهمة وبارزة في تراثنا الشعبي. انها كما الدارمي والبوذية، يندر ان تجد لها مثيلا في البلدان العربية الأخرى ما قد يؤكد نظرية كونها جاءتنا من سومر. ومأساة كمأساة الحسين، خاصة ما أحاط بنسائها من ظلم، وجدت في النواعي العراقية ما يوصل أحزانها الحارة الى قلوب العراقيين. النواعي الحسينية مع نواعي فدعة وما يزخر به تراثنا منها على لسان الأمهات الحزينات تشكل سجلاً إبداعياً رصيناً. وان كانت فدعة تعد أهم شاعرة في دنيا النواعي العراقية، بشكل عام، فإن الشاعر محمد نصار العراقي، صاحب "النصاريات"، يعد شيخ النواعي الحسينية بلا منافس.
الفارق بينه وبين عبد الحسين أبو شبع، هو ان الأخير لا يلتزم بسير الأحداث التفصيلية للمقتل. يأخذ الفكرة العامة ويعرّقها من عنده. فهو، مثلا، يعرف ان القاسم قد مات ليلة عرسه وانه ابن أخ الحسين وزوجته سكينة بنت عمه. لكن التفاصيل والحوارات كلها تأتي من مخيلته العراقية. باختصار يجعل القضية قضية الناس وليس قضية الواقعة بحذافيرها. أما نصّار فانه لم يحرر نفسه من ذلك تماما. يلتزم بالأحداث ويجاريها بنواعيه حسب تسلسلها كما وردت في مقتل "أبو مخنف" وقد يكتفي أحيانا بترجمة الحوارات والأحداث الى اللهجة الشعبية.
من يقرأ ديوان "النصاريات" قراءة نقدية خالصة قد يلمس بان تقيد صاحبها بدائرة "التعريق" حرْفياً أفقد بعض نواعيه كثيرا من حرارتها ولوعتها. هذا الفقدان لم يغب عن بال الشاعر فغذاها بصور عراقية غاية في الإبداع. فهذه الاسئلة لم ترد بالمقتل الفصيح على لسان الحسين. إنها اسئلة قد لا تمر ببال أي أب غير عراقي عندما يجد ابنه صريعاً بين يديه:
يبويه من سمع يمك ونينك؟
ومن شبحت لعند الموت عينك
للعشرين ما وصلن سنينك
وحاودني عليك الدهر الاكشر
يهتم شاعرنا برسم الصور اكثر من طرح المعاني. واعتماد الصورة في الشعر يحتاج موهبة شعرية عالية. خذوا هذه الصورة عن لحظة الوداع بين الحسين وابن أخيه القاسم:
بس شافه شبك فوكه او تباچوا
اختنكوا بالبواچي او ما تحاچوا
لمن غابت الروح او تتاچوا
على التربان ويلي والوكت حر
الفعل "تتاچوا" لوحده صورة لا تنتجها إلا مخيلة ذات موهبة عالية.
كذلك قوله:
هذا الماي يجري بطون حيات
ما نظرت الى بحر خلال هبوط الطائرة اثناء سفري إلا وتذكرت هذه الصورة، اذ فعلا تلوح لي أمواجه وكأنها أفاع تتقلب على بطونها.
النواعي التي احتواها ديوان "النصاريات" لو قرأتموها كشعر من دون النظر للقضية التي تناولتها، ستجدون فيها صورا تضع شاعرها في مكانة فدعة او قد يتفوق عليها:
يسور المرمر الماله مصاعيد يصل الرمل يمنفر العرابيد
يطير السعد يمعذب الصياييد حاطت بيه فوك الرمح وكر
أحيانا الوذ بنواعيه حين يحن قلبي لأولئك الذين كان يشعرني وجودهم بان لي وطناً. واليوم من دونهم أرى الوطن غريباً حتى عن أهله، فأصيح:
يصير النوب دهري بيكم يعود وارد أشيل راسي بيكم اردود
يصير النوب دهري بيكم يعود؟
[post-views]
نشر في: 18 نوفمبر, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 2
ابو سجاد
والله ياستاذ هاشم اظن العراقي دهره يركض ركض نحو الهاوية وماعتقد راح يتوقف وصارت رفعة الراس حسرة ويه ذول الخرية
كاظم الأسدي
صدك بوجه النشامه باب الوطن موصود بس برسمك وجلماتك لزمن يعودإلهم ردود مع الإعتذار لإقحام كلماتي مع أبوذية هاشم العقابي ونصاريات محمد العراقي