الحلقة الرابعة والخامسة خرج العراق منهكاً من الحرب التي أطاحت نظام صدام حسين. كان على النظام الجديد أن يقنع دول المنطقة بأن المؤسسات العراقية الجديدة ليست مجرد واجهات للاحتلال الأميركي. وكان عليه أن يتعايش أيضاً مع التجاذب الإيراني-التركي على الأرض ا
الحلقة الرابعة والخامسة
خرج العراق منهكاً من الحرب التي أطاحت نظام صدام حسين. كان على النظام الجديد أن يقنع دول المنطقة بأن المؤسسات العراقية الجديدة ليست مجرد واجهات للاحتلال الأميركي. وكان عليه أن يتعايش أيضاً مع التجاذب الإيراني-التركي على الأرض العراقية وأن يحاول مواجهة الضغوط التي تمارس عليه. كانت علاقات العراق شائكة مع كل جيرانه تقريباً وكان على وزير الخارجية هوشيار زيباري أن يعالج هذه الملفات. وهنا نص الحلقة الرابعة:
كيف تصف شخصية الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح؟
- هو في تقديري شخصية ذكية، وربما كان الأذكى ،إذ خرج سالماً رغم أنه تعرض لحروق. وهو مناور من الدرجة الأولى. عند تعييني وزيراً للخارجية قمت بجولة إلى دول عربية عدة وتوجهت إلى اليمن وهو رحّب بزيارتي واستقبلني في مقر القيادة العامة. قال صالح أنتم وصلتم إلى الحكم على متن الدبابات الأميركية، والأميركيون جاؤوا إلى العراق وأخرجوا صدام من الحكم وأنتم سعيدون بوجود الأميركيين الذين أتوا بكم إلى الحكم. هل تعتقدون أن الأميركيين سيتركون الأمور لكم؟
قلت له يا فخامة الرئيس، مع احترامي لما قلتموه، نحن لم نأتِ من طريق الأميركيين، بل نحن مَنْ جئنا بالأميركيين لأننا عندما انتفضنا والشعب العراقي كله ضد صدام في 1991 من دون إرادة دولية وقام صدام بذبحنا، أنتم والكثير من الدول العربية كنتم تصفقون أو تتفرجون. هو صُعق من ردّي، وأضفت ،لا أحد يمكن أن يزايد علينا في نضالنا، فنحن على مدى سنوات كافحنا الديكتاتورية على رغم كل هذه المجازر وأنتم قادة الدول العربية والإسلامية لم تظهروا أي قيمة للشعب العراقي لديكم. بعد هذه المواجهة مع الرئيس صالح، أصبحنا أصدقاء وأحباء ونتحادث في كل المحافل التي كنا نلتقي فيها. كان ذكياً ومناوراً. بعدها غيّر موقفه من العراق وتبادلنا السفراء.
كانت لدى النظام السوري حساسية حيال قيام إقليم كردستان العراق؟
- نعم. التقيت الرئيس بشار الأسد مرات عدة وكانت لديه حساسية تجاه إقليم كردستان، على رغم أنه كان يقول إن الجميع أصدقاؤنا، وهناك دعوة مفتوحة للأخ مسعود بارزاني ونرحب به لزيارتنا متى أراد، فهو ليس غريباً. وعلق فاروق الشرع قائلاً :إنه سيتم استقباله كرئيس حزب. سارع بشار إلى القول :إن الرسميات ليست مهمة بل الجوهر، ونحن نقدّر مسعود. قلت له أنا لا أتدخل بهذا الموضوع، لكن باعتباره أحد قياداتنا عند زيارته تركيا استُقبِل كرئيس إقليم، على رغم أنني أتصور أن حساسية تركيا تجاه إقليم كردستان أكبر، وكذلك استُقبِل في إيران وفي السعودية وفي مصر وفي الأردن بتلك الصفة. لاحقاً بعد بدء الأحداث في سوريا، قال السوريون إنهم يرحبون بالأخ مسعود كرئيس للإقليم، لكنه ارتأى عدم التوجه إلى سوريا في الظروف التي تعيشها.
كل فلسفة النظام السوري كانت قائمة على أساس أنهم دولة مقاومة وممانعة، وأنه إذا انهار النظام السوري فستنهار الأمة العربية. وكان هذا ينعكس بوضوح على الموقف، وهذا الجدل حصل في القمة العربية في الخرطوم بين الرئيس اللبناني السابق أميل لحود ورئيس الوزراء اللبناني حينها فؤاد السنيورة. وكان عمر البشير يترأس الجلسة وبشار الأسد يجلس إلى جانبي وفاروق الشرع. وكان هناك بيان مُقترح عن المقاومة والإشادة بها، السنيورة قال: يجب ألا نلزم أنفسنا بنصّ كهذا، فغضب أميل لحود وقال له على الملأ: «مَنْ أنت ومَنْ أتى بك وماذا تفعل هنا؟ أنا رئيس الدولة وأنا أمثّل السيادة اللبنانية ويجب أن تتم الإشادة بالمقاومة اللبنانية». الرئيس بشار وفاروق الشرع ووليد المعلم أكدوا الموضوع نفسه فتم تمرير القرار. كان واضحاً أن النظام السوري مهتم بالاحتفاظ بهذه الأوراق.
شهدت العلاقات بين دمشق وبغداد توترات علنية؟
- أتعبنا النظام السوري وقد تسببت عمليات التسلل من سوريا بمقتل آلاف العراقيين، وفاروق الشرع استقبل حارث الضاري في سوريا، على رغم أنه مطلوب دولياً.
إبراهيم الجعفري، الذي كان رئيساً للوزراء قال لي يوماً لنتباحث في وضع سوريا. وسألني: ماذا لدى سوريا من مصادر وقوة ونفط وعلوم وتكنولوجيا وصناعة؟ وقال الجعفري ان رأسمالها الوحيد السياسة والمخابرات، نظام أمني ويتعاملون بالسياسة و «تجّار الشام» مشهورون بذلك.
واضح أن إيران وتركيا تتنافسان على النفوذ في العراق؟
- العراق وقع، ولا يزال واقعاً تحت تأثير إيراني وتأثير تركي، والاثنان يحاولان تشكيل محور. الإيرانيون كانوا يطرحون علينا بجدية إقامة تكتل اقتصادي بين إيران والعراق وسوريا يرقى إلى مستوى التكامل والإعفاء من التأشيرات ومد خطوط سكك حديد تصل إلى البحر الأبيض المتوسط. الأتراك في المقابل كانوا يطرحون علينا أمراً مختلفاً: إنشاء حوض بلاد ما بين النهرين بمعنى ان يشمل تركيا والعراق وسوريا بعد أن مشوا خطوات مع السوريين في هذا الاتجاه في ما يخص التعرفة الجمركية والحدود والتأشيرات ودعونا إلى الانضمام ليجذبونا إليهم. لا تزال هناك منافسة حقيقية على مستقبل العراق وهذه الرسالة أعلنتها لكل القادة العرب منبهاً إلى أن مستقبل العراق حالياً يتنافس عليه ليس أنتم العرب بل الإيرانيون والأتراك وأنتم غائبون حتى الآن.
كيف تعايش الأميركيون مع الدور السوري الذي استهدفهم على أرض العراق؟
- الجنرال ديفيد بترايوس، الذي كان قائد القوات الأميركية في العراق جمعتنا به علاقة ممتازة ويومية. وفي إحدى المرات كانت هناك نجاحات للأميركيين ضد «القاعدة» والمتسللين. قبض الأميركيون على متسللين دخلوا الأرض العراقية آتين من سوريا. خاف السوريون من هذه النجاحات الأميركية. كنت متوجهاً في زيارة إلى سوريا فطلب الجنرال بترايوس لقائي وسألني رأيي في أن يتوجه هو لزيارة بشار الأسد لإبلاغه أن لدى الأميركيين كل المعلومات عن هذه التسللات، فلا تكون زيارة روتينية من ديبلوماسي من وزارة الخارجية. قلت له: هذا يعود إليك وإذا كان لديك تصريح بمثل هذه الزيارة فأنا مستعد لنقل هذه الرسالة شخصياً إلى بشار الأسد. أكد حصوله على تصريح وطلب مني نقل الرسالة إلى بشار. توجهت للقاء بشار الأسد وقلت له ان لدي رسالة مفادها أن القائد العام للقوات الأميركية يرغب أن يلتقي بك في دمشق في زيارة قصيرة، ففرح بشار جداً وكان ذلك عام 2008. سأل بشار وليد المعلم عن ديفيد بترايوس؟ فقال له المعلم إنه أهم شخص بعد بوش وهو مسؤول القوات الأميركية في العراق كله. فرحب بشار بزيارة مثل تلك الشخصية المهمة. عند عودتي إلى العراق، كان التصريح بالزيارة قد أُلغي بأمر من واشنطن. بترايوس كان يريد أن يوجه تحذيراً إلى الرئيس الأسد، بينما واشنطن رأت أن مثل تلك الزيارة ستضفي أهمية على الدور السوري في العراق. الأميركيون كانت لديهم أدلة قاطعة موثقة على التدخل السوري.
الإيرانيون تعاملوا ببراعة مع الوضع العراقي؟
- الإيرانيون تصرفوا بطريقة مختلفة عن الدول العربية في تعاملهم مع الوضع العراقي. هم يريدون بالتأكيد أن يكون العراق تحت تأثيرهم ونفوذهم، ولكنهم يعرفون أن الوطنية العراقية قوية جداً، حتى في الجنوب وحتى عند الشيعة أنفسهم، لذلك يريدون أن تكون الحكومة العراقية حكومة صديقة. ولكن أذكر بعض النقاط التي تؤكد أن الحكومة العراقية ليست في جيب إيران، وسأورد لك أمثلة ونماذج أنا شاهد عليها مع إبراهيم الجعفري. توجهنا في زيارة رسمية إلى طهران وكان الجعفري أول رئيس وزراء شيعي مُنتَخَب في العراق (إياد علاوي الذي سبقه كان شبه مُعيَّن). فطلب منا الفريق الديبلوماسي الإيراني أن نقوم بتوقيع بيان مشترك، ولدى الإيرانيين مهارة في إلزام الآخرين بأوراق موثقة. أعدّوا بياناً ونبّهت الجعفري سلفاً إلى عدم توقيع أي مستندات، وإذا وقعنا فيجب أن يكون التوقيع على أمور عامة وعلى بيان مشترك يكون عمومياً وَصْفياً يذكر بمَنْ التقينا في زيارتنا. مستشارو الجانب الإيراني أصروا على تضمين البيان ذِكراً لاتفاقية الجزائر عام 1975. هذه الاتفاقية تسبب لنا إشكالية قانونية تترتب عليها التزامات ومسائل حقوقية قانونية تتعلق كذلك بتعويضات الحرب العراقية - الإيرانية وهذه مسائل يعرفها الإيرانيون جيداً. قلت للجعفري هذه ستسبب لك وللعراق إشكالية، فتلك الاتفاقية حصلت على جسد الشعب الكردي وعلى جسد المعارضة العراقية في وقتها، وقاموا بتقسيم شط العرب. فرد الجعفري معتبراً أن رأيي سليم. وحتى وقت متأخر من الليل استمر الفريق التفاوضي العراقي يقول لنا إن الجانب الإيراني يلح إلحاحاً شديداً للتوقيع. مسؤول الوفد التفاوضي العراقي ليث كبة، وهو أحد مستشاري الجعفري، كان موافقاً. فقلت هذا لا يجوز وعلينا أن نتوجه صباحاً إلى المطار، فقام الإيرانيون بعقد مؤتمر صحافي في المطار بحضور قاسم سليماني والدكتور علي ولايتي، وزير خارجية إيران السابق وكبير مستشاري المرشد الأعلى، ووزير الخارجية وكل الصف الأول الإيراني كان في المطار لإعلان البيان. توجهت إلى الجعفري وقلت له إن في البيان فقرة واضحة تتضمن الموضوع الذي نبهتك إليه وأنت رئيس الوزراء وتتحمل المسؤولية ولكن من واجبي تنبيهك. طوى الجعفري الورقة ووضعها في جيبه وقال لا مؤتمر صحافي ولا بيان مشترك، نحن جئنا في زيارة إلى إيران والتقينا أصدقاءنا.
وكرر الإيرانيون المحاولة خلال زيارة المالكي الأولى إلى إيران بعد تعيينه رئيساً للوزراء وجهزوا له الموقف نفسه. توجهت إلى المالكي ونحن ندعوه «الحجّي»، وقلت له: يا حجّي انتبه لأن هناك مساءلات في هذا الموضوع وأنا من واجبي كمسؤول تنبيهك. فقال المالكي: لا يمكن أن أقبل الإشارة إلى اتفاقية الجزائر، فهناك نقاش وجدل حول الموضوع ولم يوقّع. الإيرانيون ضغطوا على المالكي بكل قوتهم لئلا يخرق الصف الشيعي، وأن يكون هناك تكتل شيعي واحد حتى يضمنوا فوزاً ساحقاً في الانتخابات. وأصر المالكي على تشكيل ائتلافه الخاص الذي هو دولة القانون. الإيرانيون ضغطوا عليه بقوة لإنهاء الوجود الأميركي فوراً، ونحن وقعنا اتفاقية سحب القوات بعد ثلاث سنوات وكان ذلك ضد رغبة الإيرانيين. إيران كانت تكره أن يقوم العراق باستخدام سلاح أميركي ونحن توجهنا إلى أميركا ووقعنا على صفقات لطائرات «أف 16» وبعيداً عن الجدل السياسي كموقف، لكن إيران ضد هذا التسلح.
زاركم وليد المعلم بعد اندلاع الأحداث في سوريا. ماذا طلب؟
- زارنا وليد المعلم في الشهر الرابع أو الخامس من عام 2011 وكانت الانتفاضة انطلقت في درعا وبدأت تنتقل إلى مدن أخرى ورافقته إلى لقاء المالكي. جاءنا المعلم بطلبين، الأول أن وضعهم صعب ويريدون منا مساعدتهم، قائلاً إن لدينا طبقة رجال الأعمال والتجّار في دمشق وفي حلب، فطالما دمشق وحلب تحت السيطرة، لا خوف من الأطراف، وهؤلاء لديهم مصانع وبضاعة. وطلب المعلم تسهيل مسألة السيطرة النوعية على الحدود، فهناك إجراءات معينة تقوم بها وزارة التجارة لقياس جودة البضائع الداخلة إلى العراق وهذه الإجراءات تتأخر وفيها بعض التعقيدات، فقال المعلم: ربما تتساهلون معنا للدخول إلى السوق العراقية. والطلب الثاني كان ان نعطيهم نفطاً، كما نعطي الأردن، بأسعار مخفضة. فالمعلم قال: إننا نتوقع حدوث أزمة محروقات مستقبلاً ونريد أن تعاملونا مثل معاملتكم للأردنيين. ونقل إلينا سلام الرئيس بشار الأسد. المالكي قال له يا أستاذ وليد تعرف أنا لا أستطيع أن أقرر بل عليّ أن أعود إلى مجلس الوزراء، والمالكي يلمِّح إلى أن هذا بعكس الإجراءات المتبعة في سوريا حيث القرار يعود لرجل وحيد. وأضاف المالكي: أنا لا أستطيع أن أقرر من دون العودة إلى مجلس الوزراء وأطرح الموضوع، فإما أن تكون هناك موافقة عليه أو لا.
بعدها قمنا بتسهيل عبور البضائع السورية عبر الحدود، لكننا لم نزودهم بالنفط بأسعار مخفضة وقطعاً لم نزودهم بمقاتلين أو أسلحة. أنا أتحدث هنا عن الدولة وما يمر عبر مجلس الوزراء.
ومسألة السلاح الإيراني إلى سوريا عبر أجواء العراق؟
- كانت طائرات إيرانية تعبر الأجواء العراقية وقام الأميركيون بتنبيهنا إلى ذلك. خلال فترة من الفترات رصد الأميركيون مرور طائرات شحن فوق الأجواء العراقية وتابعوها. سألنا المالكي هل هناك موافقة لعبور هذه الطائرات؟ فأجيب أن ليست هناك موافقة. قلت له إذا لم تكن هناك موافقة علينا أن نمنعها وأن نبلغ الجانب الإيراني أن ذلك يشكل خرقاً لقرارات مجلس الأمن التي نلتزم بها ويجب إيقافها، لكنها استمرت.
الأميركيون قالوا لنا إن هذا خرق فظيع ويتوجب علينا إبلاغ الجانب الإيراني لإيقافها وإلا يمكن أن تتعرض تلك الطائرات إلى مخاطر.
في ما يتعلق بتجارة التهريب عبر الحدود السورية – العراقية والسورية – اللبنانية والسورية – الأردنية، فهذا أمر موروث وجزء من التقاليد. لكن لم يتخذ في هيئات رسمية عراقية قرار بدعم النظام السوري.
في الموقف السياسي اتخذت الجامعة العربية قراراً بضرورة تنحي بشار الأسد، لكن نحن تجنبنا أن نكون أوصياء نملي عليه ما يفعل، وهذا يؤخذ علينا وثمة من اعتبر أننا في صف بشار. الحقيقة ان الوضع السوري شديد التعقيد ومصير نظام الأسد يجب ان يحسمه السوريون انفسهم. سوريا على حدودنا ونحن نتأثر بما يجري فيها وإذا رسخت «القاعدة» وجودها على حدودنا فسندفع الثمن.
هل يضغط الإيرانيون على المالكي لتقديم أي دعم لبشار؟
- ربما يكون هناك ضغط لكنه لم يؤد إلى أي نتيجة. أنا أتحدث هنا عن مجلس الوزراء.
تركيا لم تستقبل بارتياح إسناد منصب وزير الخارجية في العراق إلى سياسي كردي؟
- الأتراك كانت لديهم حساسية تجاهي ربما تفوق ما لدى الدول العربية، كوني كردياً ووزير خارجية دولة مثل العراق، ولم يكونوا مرتاحين إلى تعييني إطلاقاً. وتمت مهاجمتي في الصحافة التركية والإعلام. أذكر في إحدى المرات إنني التقيت بالممثلة أنجيلينا جولي، وكانت سفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة للاجئين العراقيين، والتُقطت لنا صور معاً فعلّقت صحف الإثارة التركية قائلة: «من عجائب الدنيا زيباري مع جولي»!
الأتراك كانت لديهم مخاوف من الوضع العراقي ولم يكونوا إيجابيين في البداية، وعلاقاتهم مع الأميركيين كانت تعيسة بعد الموقف التركي عشية التدخل الأميركي. أذكر أن بعض كتّاب الرأي في الصحافة التركية هاجموا القيادة التركية هجوماً شنيعاً مادحين رئيسي عشيرتي بارزاني وطالباني اللذين أثبتا أنهما أذكى من هذه الدولة التركية العريقة، وتمكنا من تخريب علاقاتها مع الأميركيين وكسبا الأميركيين وجاءا بالأميركيين وأسقطا صدّام ووضعا الأسس لنظام جديد.
عبدالله غل كان جيداً وواضحاً، ربما بحكم كونه وزيراً للخارجية. خلال لقاء في القاهرة قلت له إنه سيكون رئيس الجمهورية القادم. فسألني كيف تعرف هذا؟ فقلت هذا تقديري.
عُقد مؤتمر لدول جوار العراق في تركيا وحاولوا أن يتجنبوا استقبالي وكانوا يريدون أن يحضر إبراهيم الجعفري، فقلت لهم هذا اجتماع لوزراء الخارجية وأنا حضرت مثل هذه الاجتماعات سابقاً، فما علاقة الجعفري أو غيره؟ فرفضوا وقلت إنني لن أحضر أبداً وطلبت أن يتم إبلاغهم أن العراق سيقاطع المؤتمر، على رغم أنه يُعقد لبحث أوضاع العراق، فقاموا بإرسال طائرة إلى مطار بغداد لتقلني في الساعة الثانية فجراً، وكانت هذه من أساليب المراوغة لديهم.
الأتراك كانت لديهم حساسية شديدة من حزب العمل الكردستاني ولم يكونوا يتعاملون مع إقليم كردستان إطلاقاً، فذلك كان من المحرّمات بالنسبة إليهم، بل أرادوا التعامل مع بغداد. قلت لهم أهلاً وسهلاً بكم فأنتم ستتعاملون معنا في بغداد حيث نحن موجودون. وهناك احترام متبادل مع الوزير أحمد داود أوغلو.
في إحدى زياراتنا إلى تركيا مع المالكي أيضاً جهزوا بياناً وطلبوا منا التوقيع عليه في المطار ذُكر فيه أن حزب العمال (الكردستاني) حزب إرهابي يجب أن تتم مكافحته، وهذا وفق القانون الدولي يحمّل العراق مسؤولية. فرفضت رفضاً قاطعاً بوجود المالكي، وقلت لهم إن البيان لم يُمرر إلينا سلفاً، ولا أعرف إن كنتم تداولتم به مع مستشاري المالكي، ولكن نحن غير موافقين عليه. وإذا وافق المالكي على توقيعه، فإن ذلك سيتسبب في إسقاط حكومة المالكي، ونبهته إلى ضرورة عدم التوقيع، لأن ذلك سيخلق له مشكلة كبيرة مع إقليم كردستان ومع المام جلال ومع الأخ مسعود. وقمنا مع المالكي بالتشاور مع عبدالله غل بوجود أردوغان الذي قال عني إنني أدعم الإرهاب (برفضي التوقيع على البيان)، فقلت له أنا لا أدعم الإرهاب بل نحن نحارب الإرهاب بكل الوسائل، ولكن إذا أردت أن تجبرني على التوقيع، فأنا كمسؤول يجب عليّ أن أقول لك لا، وأقولها بوجود المالكي. وكان هناك مؤتمر صحافي مقرر قام الأتراك بتأجيله. فقلت للمالكي: أنت ما زلت حديث العهد في منصبك، فلماذا تورط نفسك بمثل تلك المسائل وتخلق جبهة ضدك؟ فقال هذا صحيح، ولكنني أريدك أن تبحث لنا عن مخرج. فقدمت صياغة أخرى وافق عليها الأتراك.
في حادثة أخرى عقد الأتراك اتفاقية مع وزير الداخلية بحيث يُسمح للجيش التركي بدخول الأراضي العراقية، وتلك كانت اتفاقية معمول بها منذ أيام صدّام حسين أراد الأتراك إحياءها. وقد سبق أن وردتنا إلى وزارة الخارجية مثل تلك الاتفاقات التي كنا نقوم بالتدقيق فيها ونرفضها، ورفضنا المُقترح التركي الجديد. زار أردوغان بغداد وكنا نجلس إلى طاولة واحدة مع المالكي ووزير الخارجية التركي، فأبلغوا أردوغان أن وزير الخارجية العراقي رفض الاتفاقية. فقال لي أردوغان: لكن رئيس الوزراء موافق وكذلك وزير الداخلية جواد البولاني، فلماذا ترفضها؟ قلت له: أنا لن أوافق. أردوغان سأل متهكماً: مَنْ يتخذ القرار في بغداد؟ فقلت أنا، وضحك الجميع. فقال أردوغان: أريد أن أفهم بالضبط لماذا أنت غير موافق على هذا الموضوع. قلت له أنت رجل مسلم وأنا مسلم مثلك ولكن أنا أقسمت على القرآن الكريم عند تعييني وزيراً للخارجية بأن أحافظ على سيادة العراق ومياهه وأراضيه من أي تدخل، وهذا تدخل، لذلك لن أقبل وهذا واجبي، وهذا الموقف ليس موجهاً ضد تركيا وسأتخذ الموقف نفسه حيال أي تدخل آخر.
في حادثة أخرى، أصرّ أحمد داود أوغلو، وزير خارجية تركيا، على زيارة كركوك على رغم الحساسيات التاريخية والمستجدة. اتصلت بأحمد قائلاً: نرحب بك في بغداد، لكن زيارتك إلى كركوك لن أسمح بها. وبقينا نتناقش لساعات وقلت له أنت العقل الستراتيجي لتركيا وتريد مني أنا وزير خارجية البلد المسكين أن أشرح لك. وسّط داود أوغلو رئيس الجمهورية جلال طالباني وقال له: أريد أن أزور بغداد وأن أتوجه إلى كركوك، لكن وزير الخارجية لم يسمح لي بزيارتها. اتصل بي رئيس الجمهورية وقال: إذا كان من الممكن أن تسمحوا له بزيارة كركوك، فلا أرى ما يمنع ذلك. فقلت له يا مام جلال مثل تلك الزيارة ستخلق لنا مشكلة صعبة جداً وستفتح الباب لزيارات لاحقة لوفود تركية، وأنتم أدرى الناس بحساسيات كركوك. وأنا، مع تقديري لكم، لن أسمح له بزيارة كركوك. سألني الرئيس: ما رأي المالكي في الموضوع؟ فقلت له إن المالكي أيضاً لا يؤيد زيارة داود أوغلو إلى كركوك. اتصل الأتراك بالأخ مسعود رئيس الإقليم فخابرني طالباً أن نفسح لأوغلو المجال لزيارة كركوك فأصررت على موقفي الرافض، وقلت هذا وزير خارجية تركيا ولن أسمح له بزيارة كركوك، وبالفعل لم تتم الزيارة. زار داود أوغلو بغداد وسألني لماذا هذا الموقف الرافض؟ فكررت الشرح أن كركوك حساسة وزيارته ستسبب مشاكل وصعوبات. لكن علاقتي مع الوزير التركي علاقة طيبة. كذلك أصبحت علاقتي على أحسن ما يرام مع أردوغان، بعد ما دار بيننا من جدل ونقاش.
كيف كان موقف الرئيس المصري السابق حسني مبارك؟
جاء هوشيار زيباري من المأساة الكردية باكراً .اختبر قسوة العيش في كردستان العراق وتحديداً مذ كان صغيراً يلهو مع ابن شقيقته مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق حالياً. نجا زيباري من «قصر النهاية» لكن النظام قتل ثلاثة من أشقائه. لعب دوراً بارزاً في شرح القضية الكردية للعالم وكان حاضراً في كل المحطات التي أدت إلى إطاحة نظام صدام حسين:
ولدت في عائلة كردية دفعت ثمن انخراطها في محاربة نظام البعث؟
- أنا من مواليد عقرة 23 أيلول (سبتمبر) 1953، وهي منطقة تقع بين أربيل ودهوك. والدي اسمه محمود آغا الزيباري. عائلتنا تتألف من ثلاثة أشقاء أكبر مني قتلهم صدام حسين وثلاثة أخوة أصغر مني. الزبير قتل مسموماً بالثاليوم بعد أن تم استدعاؤه إلى دائرة المخابرات في الموصل سنة 1981 بعد الحرب العراقية-الإيرانية، وهو كان بمثابة رئيس العشيرة بعد والدي وكانوا يشكون أن لديه علاقات أو يسهل أمور البشمركة أو المقاتلين في بعض القرى أو يتساهل معهم. تمت دعوته إلى دائرة الأمن العام في الموصل وقدموا له كوباً من عصير البرتقال الذي بدا عادياً. بعد عودته شكا من آلام ومغص وبدأ شعره يتساقط. أخذوه إلى عدة أطباء فلم يشخصوا لنا حالته إلى أن أحضروا طبيباً في صورة سرية فأخبرهم أنه مسموم وهذه كانت آنذاك طريقة من الطرق الجديدة للأمن العراقي والمخابرات العراقية للتخلص من المناوئين. أحد الأسباب أيضاً الرغبة في معاقبتي لأنني في تلك الفترة كنت مع المعارضة ومع الحزب الديموقراطي الكردستاني وكنت قد انتُخبتُ في قيادة الحزب في 1979 للمرة الأولى وكنت ناشطاً في بريطانيا وفي أوروبا. بعد ذلك بسنة طلبوا شقيقيّ عمر وتتر أيضاً إلى أربيل لسؤالهما عني وما لديهما من معلومات فتوجها من الموصل إلى أربيل (ومسافة الطريق حوالي ساعة ونصف أو ساعتين) وفي طريق عودتهما صدمت شاحنة سيارتهما، وتمت لفلفة القضية واعتبارها حادث سير، لكن بحسب معلوماتنا والوثائق التي اكتشفناها لاحقاً كان هذا الأسلوب أيضاً من وسائل الأمن العراقي للتخلص من المعارضين بدون ضجة وكي لا يعتبر اغتيالاً.
والدي اتخذ زوجتين فأنجبت والدتي الأشقاء الأكبر سناً مني وشقيقتي حمايل (والدة مسعود بارزاني رحمها الله) وثلاث شقيقات أخريات، وأنجبت الزوجة الثانية ثلاثة إخوة وأختين أصغر مني متزوجتين.
والدك كان زعيم عشيرة الزيباري؟
- والدي كان رئيس عشيرة الزيباري وكان نائباً في البرلمان العراقي في العهد الملكي لدورات عدة. عشيرة الزيباري من العشائر الكردية الكبيرة، بعد البارزانيين، ونحن متجاورون ، إذ يفصل نهر الزاب بين العشيرتين وهما كانتا في الأصل عشيرة واحدة: عشيرة الزيبارية. العلاقات لم تكن دائماً جيدة بسبب خلافات عشائرية وتداخل في المناطق والمراعي، على رغم أن والدي وعشيرتنا في الحركات الأولى للملا مصطفى بارزاني ضد الحكومة وضد القوات البريطانية كانوا من المشاركين الأساسيين، ثم حدثت خلافات وانفصلنا.
* متى تزوّج الملا مصطفى شقيقتك حمايل؟
- تزوجا في حدود سنة 1944. ذهبا إلى إيران وولد مسعود هناك في مهاباد (في إيران) في 16 آب (أغسطس) 1946. وعند انهيار الثورة في مهاباد بعد أن سحب السوفيات دعمهم توجه الملا مصطفى إلى روسيا وعادت العوائل (عوائل الثوار) إلى العراق. والدي آنذاك، باعتبار موقعه العشائري والحكومي، طلب من نوري السعيد أن يخرج أم مسعود ومسعود من الاعتقال أو الحجر في منطقة ديانا في أربيل، ويأتي بهم إلى قريتنا باني، جميع المعتقلين نقلوا لاحقاً جنوباً إلى بغداد والناصرية. نزولاً عند هذا الطلب والإلحاح سمحت السلطات لوالدة مسعود والطفل مسعود أن يعودا مع والدي إلى قريتنا. وبذلك نشأ مسعود وترعرع معنا إلى أن أصبح عمره حوالي 13 – 14 سنة.
علاقتك مع مسعود والقضية بدأت إذاً منذ الصغر؟
- بدأت حياتي السياسية بعد بيان 11 آذار (مارس) 1970 (الذي ينص على منح كردستان العراق الحكم الذاتي). كنا نقيم في الموصل. ثقافتي وتربيتي ودراستي معظمها كان في مدينة الموصل. لذلك تأثرت بهذه البيئة العربية والاختلاط. كنت طالباً في الثانوية وانضممت إلى صفوف اتحاد الشبيبة الديموقراطي الكردستاني، القريب من الحزب الشيوعي بترتيباته: اتحاد النساء – اتحاد الطلاب – اتحاد الشباب.
في تلك الفترة اشتركت ببعض النشاطات وكانت العلاقات بين الحزب والبعث بعد بيان آذار 1970 وخلال سنة 1971 مقبولة ثم تدهورت. والدي رغِب جداً في أن أصبح ضابطاً في الجيش العراقي وفق العقلية العشائرية وتوسط لدى مجموعة من الضباط والمسؤولين العراقيين فرحبوا وطلبوا أن أقدم أوراقي ووعدوه أن يقبلوني. ذهبت إلى بغداد وقدمت طلباً إلى الكلية العسكرية لكن عندما اكتشفوا أنني قريب من الملا مصطفى وخلفيتي وأريد أن ألتحق بالجيش العراقي رُفض طلبي بنوع من الإهانة فعدت أدراجي.
كنت بعد تخرجي من الثانوية العامة قد قدمت طلبات انتساب إلى بعض الكليات: في جامعتي الموصل وبغداد رُفضت أيضاً بسبب انتماءاتي. وأحكي لك هذه القصة المهمة جداً فقد أرسلني والدي إلى الملا مصطفى ومسعود مع رسالة أنه يحبني جداً ويريدني أن أكمل تعليمي في العراق أو في الخارج بعد أن أغلقت كل الأبواب وطلب مساعدتهما. وسبحان الله كان الملا مصطفى قد التقى بالملك حسين رحمه الله في طهران في سنة 1972 وبحثوا العلاقات وفي حينها كان الملك حسين من أشد المؤيدين لأن تدعم أميركا الحركة الكردية وهذا مسجل في العديد من المذكرات (كيسنجر) والوثائق الأميركية. في ذلك الوقت بالذات قالوا إنه من الممكن أن نرسلك إلى الأردن. وأتوقف هنا لأسرد أمراً أهم لإكمال الصورة.
فجأة وجدت نفسك في «قصر النهاية» في بغداد؟
- في نهاية 1971 أرسلني مسعود إلى بغداد مع رسالة إلى أحد الوزراء الكرد لمساعدتي للحصول على قبول في إحدى الجامعات العراقية. توجهت إلى بغداد وكان عمري حوالي 18-19 سنة والتقيت مع بعض الأصدقاء. ذات يوم أردنا التوجه معاً إلى أحد المطاعم في بغداد فرأيت سيارات الأمن تقف أمام الفندق. كنت شاباً صغيراً وكنت أحمل رخصة سلاح - في الوقت الذي كان الحصول على مثل تلك الرخصة صعباً جداً جداً إلا بتوقيع مدير الأمن السيئ الذكر ناظم كزار. حصلت عليها عن طريق مسعود ،إذ كانت علاقته جيدة معه في حينه. وكانت الرخصة بمثابة ضمانة لي في أي مكان لأنّ اسم ناظم كزار كان مرعباً. نزلنا من الفندق فقالوا لنا عليكم التوجه معنا. وكان معنا أحد المسؤولين وهو كان سكرتيراً لأحد الوزراء الكرد ضمن المجموعة وكان معنا ضباط في الكلية العسكرية وطلاب جامعيون كرد فأخذونا جميعاً وجلس قربي سكرتير الوزير فسأل: «أبو الشباب» إلى أين تأخذوننا؟ فأجابه: لا أعرف، وكان يتحدث بعصبية ويقول كيف أنتم دولة ضمن دولة، نحن مسؤولون في هذه الحكومة وأين تأخذوننا. أجابه نذهب لتحقيق بسيط في مركز الشرطة ونعيدكم. ثم لاحظ سكرتير الوزير أن السيارة تتجه إلى «قصر النهاية» وكان هذا المعتقل رهيباً في السبعينات وكان معروفاً للمتابعين أن من يدخله لا يخرج منه. أنا لم أستوعب تلك المسألة فلا أعرف التفاصيل ولم أسمع بقصر النهاية لكن السكرتير يعرفه.
أخذونا إلى «قصر النهاية» وتم تفتيشنا ومعي مسدسي، وفي القصر لجنة التحقيق. كنت أحمل بطاقة تعريف مدرسية ووثيقة حمل السلاح وصورة للملا مصطفى وفلوساً وساعة. بانتظار التحقيق وفي طقس بارد تم توزيعنا على غرف للحبس الانفرادي مساحتها متر مربع وبابها حديدي وفيها شباك صغير ولا نعرف ما سبب اعتقالنا. انتظرنا التحقيق حتى الساعة الثالثة فجراً ونحن نسمع صراخ أشخاص تحت التعذيب. في ذلك الوقت لم أكن أعرف ما الشيعة وما السنّة أبداً وسمعت شخصاً يستنجد بعلي والحسين ومعتقِله يشتمهم جميعاً. والأبواب الحديدية الأخرى تُفتح وتُغلق بقوة ثم جاؤوا إلينا وعصبوا أعيننا. أوقفونا وسمعت أصوات خطوات عسكرية وخبطات أقدام لدى تأدية التحية وكلمة سيدي تتردد وأنا معصوب العينين وخائف. جاء من يبدو أنه ضابط فقالوا له سكرتير الوزير ليس لديه بطانيات فماذا نفعل به؟ فأجابهم بشتيمة من نوع أن يهتكوا عرضه وهذه العبارة رنّت في أذني.
ذهبنا إلى التحقيق وسألوني: ماذا جئت تفعل هنا؟ وكان بين الأوراق التي في حوزتي ورقة من مسعود إلى محافظ السليمانية في وقتها الذي كان مسؤول علاقاتنا مع لجنة السلام، يوجهه فيها أن يكتب رسالة إلى الوزير سامي عبدالرحمن رحمه الله أن لدينا بعض المقاعد لاتحاد الطلبة الكردستاني مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق البعثيين خارج الـ «كوتا» للحالات الخاصة الاستثنائية فربما أدخل إلى كلية ضمن هذا الإطار وهذه المجموعة. فعند سؤالي عن سبب زيارتي قلت إنني جئت أراجع الوزير ومعي الرسائل والوثائق الخاصة بي موجودة. قال المحقق إنني كنت أتردد على مقر بارزاني فأجبته أن ترددي طبيعي لأن الملا مصطفى قريبي ومسعود ابن أختي وبيننا علاقات عائلية.
أعود الآن إلى أيلول سنة 1971 حين حضر حزب البعث وصدام حسين مؤامرة لاغتيال الملا مصطفى (عند تفجير الملالي في الجلسة) وكانت معجزة من المعجزات. مسعود والأمن الكردي عملوا «لعبة» (خدعة) على حزب البعث، فريق الاغتيال كان يضم 11 شخصاً من رجال دين وضباط المخابرات، لكن رجال الدين بالتأكيد لم يكونوا على علم بخطة التفجير بل أوهموهم أن الأحزمة الناسفة كانت آلات تسجيل وفجّرهم ضباط مخابرات كانوا ينتظرونهم في الخارج في السيارات.
أنا توجهت إلى بغداد في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1971 والأمن الكردي في وقتها سلّم حزب البعث أو الحكومة العراقية عشرة جثث بينما كانوا 11 ونشروا إشاعة أن الحادي عشر مجروح ويعالج في مستشفى على الحدود مع إيران فجن جنونهم ويريدون أن يعرفوا إذا كان الشخص الحادي عشر ميتاً أو حياً. وأمامهم هذه المجموعة التي جاءت إلى بغداد: أنا طالب، الآخر ضابط في الكلية العسكرية (هو حالياً رئيس أركان الجيش العراقي بابكر زيباري) ومعنا قريبي غازي زيباري - سفيرنا في تونس - كان حينها طالباً في كلية الحقوق في جامعة بغداد، ومعنا ابن أخي وأيضاً كان معه رخصة حمل سلاح وكان معنا مواطن كردي سوري اسمه مصطفى بيك رحمه الله وكان ممن التحقوا بالملا من كرد سوريا، وسائق من أهالي أربيل كان يتردد كثيراً بين بغداد وأربيل ووجدوا أن هذه المجموعة ربما تكون مجموعة لاغتيال صدام حسين. لأن من أعد محاولة الاغتيال كان صدام وأخوه برزان وتوهموا أننا أتينا للانتقام والرد. والتوتر بين الحزب والبعث في حينه كان في أوجه في الإعلام في جريدة «التآخي» (جريدة الحزب الديموقراطي الكردستاني) و «الثورة» و«البعث» فحققوا معنا على هذا الأساس. سُئلتُ: كم مرة ذهبت إلى منطقة كلالة التي كانت مقر بارزاني في وقتها؟ كل تحركاتنا كانت مسجلة في نقاط السيطرة وكم مرة ترددنا. واعتقدوا أننا خلية جئنا مع سكرتير الوزير نفسه. سألونا ماذا نعرف عن الشخص المفقود وأين هو وهل هو حي أم لا ونحن ليس لدينا أي علم. ثم من باب الضغط سُئلنا أنتم لماذا توحدتم (نحن كنا في السابق على خلاف مع بارزاني عشائرياً، ثم بعد بيان 11 آذار توحدنا) وانضمت عشيرتكم الكبيرة إلى بارزاني فقلنا لهم أنتم طلبتم صفحة جديدة ومصالحة ووحدة وطنية ولا خلافات وبيان 11 آذار سوف يطبق نصاً وروحاً الخ. فاستخفوا بهذه المسألة وقالوا أنتم لماذا تصدقون هذه المسائل، نحن حكومة ونعرف ما يتوجب عمله، بما معناه أن هذا تكتيك يقومون به حالياً، لماذا ورطتم أنفسكم مع المتمردين والمخربين بعد أن كنتم مرتاحين في بيوتكم، ودَقوا على هذا الوتر.
تعرضنا للإهانات والتخويف وتكرار التحقيق في عدة جلسات فأنا بقيت في «قصر النهاية» يومين ونصف اليوم وكنت من المحظوظين جداً والضابط بابكر وغازي وسكرتير الوزير صالح اليوسفي رحمه الله الذي كان وزير دولة ومن الشخصيات القيادية المفاوضة الأساسية. أخرجونا بعد أن جرت تدخلات قوية جداً. اعتقالنا سبب ضجة وحصلت اعتقالات أخرى وكان التوتر عالياً جداً. أتذكر أن إيران احتلت في هذه الفترة الجزر الإماراتية الثلاث بعد الانسحاب البريطاني. صدام خفف التوتر مع الحركة الكردية وقام يعزف على وتر آخر ويقول هذا احتلال وعلينا أن نتصدى ومطلوب وحدة قوية. والإيرانيون خلال حكم الشاه احتلوا الجزر خلال فترة احتجازنا في «قصر النهاية» وكان الشاه يدعمنا في الشمال فصارت لدى حزب البعث وقفة لذلك خففوا التوتر. الحزب والأمن الكردي بعد مداخلات ورسائل إلى أحمد حسن البكر وإلى صدام للإفراج عنا وعن مجموعات أخرى لم يكن ذلك مفيداً. فردوا هم بالمثل وذهبوا إلى كركوك وجنوبها واعتقلوا مجموعة من المسؤولين البعثيين المهمين وتم نوع من تبادل رهائن. بعد الإفراج عنا وحيث أن أعيننا كانت معصوبة طوال فترة التحقيق عرفنا أن أحد المحققين الأساسيين كان إما صدام أو أخوه برزان التكريتي مع ترجيح أن يكون برزان.
خلال اليومين والنصف من الاعتقال تعرضنا لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي يدخل علينا سجانون لضربنا ثم يأخذوننا للتحقيق ليلاً شاهرين علينا بنادقهم ويرشدوننا إلى موقع «الرمي» وآثار الدماء والرصاص. و(عانينا من) رداءة الأكل والوساخة. أنا إذاً من خريجي «قصر النهاية»، ومن ذلك الوقت حدث لي انقلاب فكري وهناك قول عربي مشهور: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم. وقررت أنه لا يمكن لي أن أعيش في ظل مثل هذا الحكم.
وقصتك مع الملك حسين؟
- أعود الآن إلى قصتي مع الملك حسين. بعد مسألة «قصر النهاية» تقدمت إلى الكلية العسكرية ولم تفد «كوتا» الوزارة وذهبت إلى الملا مصطفى وكتب والدي رسالة بأنني لا أستطيع أن أعيش في العراق فقد أُعتقل. قال إن الطريقة الوحيدة أن نرسلك إلى الأردن مع ثلاثة آخرين: أحدهم ابن أحد الضباط العراقيين المشهورين اللواء كمال مصطفى الذي توفي في لندن وكان لاجئاً لدى الثورة الكردية واسم ابنه رعد حسب ما أذكر واثنان كرد: أحد أعضاء البشمركة وابن عمي. وأبلغونا أننا سنرسل لنكون في ضيافة جلالة الملك حسين. وكَوْن هذه أول بادرة لعلاقتنا كثورة كردية مع الأردن عليكم أن تحسنوا التصرف. خروجنا ودخولنا كان سراً من كردستان عن طريق إيران وليس عن طريق بغداد وكانت الدروب شبه محررة وتحت سيطرة الثورة. الأردنيون ساعدونا في حينها والسفير الأردني في طهران كان قائد القوة الجوية الأردنية في حرب حزيران 1967 وكان كردياً هو اللواء صالح الكردي.
أتينا إلى عمّان وكنا ضيوف الديوان الملكي في أواخر 1972 – 1973 وجاءنا رئيس الديوان شخصياً عامر خمّاش ورحب بنا وشرح لنا الظروف الأمنية وفي حينها كانت الثورة الفلسطينية مشتعلة والجامعة الأردنية فيها مشاكل فقال عليكم تقديم أنفسكم باعتبار أنكم إيرانيون من عرب الأهواز للتمويه وتحكون اللهجة العراقية العربية وكان هذا الغطاء المطلوب. وسيتم إسكانكم في كلية الشهيد فيصل الثاني التي هي مدرسة ثانوية نموذجية بسيطة لأبناء الشهداء المقربين وأبناء العشائر فلا أقسام داخلية بل مثل معسكر، من جهة للناحية الأمنية ومن ناحية أخرى لا نريد أن تجلبوا انتباهاً. وكنا أربعة شبان ننام في غرفة واحدة والأكل حسب البروتوكول العسكري الأردني حتى لا نلفت انتباه السفارة العراقية.
* هل تم تزويدكم بجوازات سفر؟
- تم إعطاؤنا جوازات سفر أردنية سرية. عند توجهنا إلى الجامعة كان مرافقونا من الديوان الملكي أو من رئاسة الأركان الأردنية وتم تقديمنا كضيوف إيرانيين وقدمنا أوراقاً وشهادات ثانوية وكان وضعاً صعباً. كان زملاؤنا الطلاب يعتقدون أننا إيرانيون. أكملت دراستي الجامعية في الأردن أربع سنوات حيث درست علم اجتماع وسياسة دولية في الجامعة الأردنية وهي جامعة عريقة جداً. خلال دراستي الجامعية في 1975 انهارت الثورة وأنا في السنة الثالثة. كنا في وقتها نتابع «الحياة» و «الحوادث» وإذاعة إسرائيل والـ «بي بي سي» وتابعنا حرب أكتوبر. وخلال تلك الفترة أصبحت لديّ صداقات واسعة جداً مع الجو السياسي الفلسطيني ومع الطلاب الفلسطينيين لناحية متابعة الأخبار والنقاشات واستفدت من وجودي هناك للإطلالة على الوضع العربي والوضع الفلسطيني ولم أكن معزولاً كما في أربيل أو في بغداد، وكنا نزور سوريا وبيروت ،وجماعة جلال طالباني بدأوا في حينه تأسيس الاتحاد الوطني.
سنة 1975 انهارت الثورة وكانت صدمة رهيبة بالنسبة لي ولا أعرف هل أعود إلى إيران عن هذا الطريق؟ هل الترتيبات مستمرة؟ ومسعود والملا مصطفى وآخرون شبه معتقلين في إيران (وتم توزيعهم) وتحت المراقبة الشديدة، هل أعود إلى بغداد؟ بعد انهيار الثورة بقي بعض أشقائي الكبار في العراق، والبعض انتقل إلى إيران، وبدأ الأمن يضغط عليهم والاستخبارات وقالوا لهم إن عليهم إعادتي إلى بغداد بأي ثمن فأرسلوا إليّ مبعوثين ورسائل وأنا كنت من المعاندين بعد تجربة «قصر النهاية» قلت لن أرجع مهما كان. ثم أرسل إليّ شقيقي الأكبر رسالة تأثرت بها كثيراً قال فيها إنني رزقت بطفل (زوجتي من العمادية، مدينة تاريخية في كردستان العراق، ومن عائلة معروفة جداً) اسمه عبدالكريم سمّاه والدي تيمناً بعبدالكريم قاسم الذي كان معجباً به. فذكر في رسالته أنني أصبحت مسؤولاً أمام ابني وزوجتي وإخوتي الصغار فمن الضروري جداً أن أعود، وقال :كلنا أردنا أن تنجح الثورة لكنها فشلت فإلى متى تبقى؟. أرسلت رسالة إلى مسعود قلت له إنني سأرجع، وهو يعرف ظروفنا، فقال عُدْ، لا مشكلة، ولكن انتبه إلى نفسك.
وكان عليّ أن أراجع السفارة العراقية في عمّان وهم يبحثون عني في عمّان، إذ أن الأمن العراقي كان يعتقد أننا في تدريب عسكري في الأردن في كلية عسكرية. وهم يتساءلون هل وصل الأردن إلى هذه المرحلة للتآمر على عراق البعث وعراق الثورة. توجهت إلى السفارة واستقبلت بالترحاب وقالوا لي سوف نساعدك ،قلت لهم إنني سأرجع بشرط أن أعود لإكمال دراستي إذ بقيت لي سنة للتخرج من الجامعة. قالوا نعطيك جواز سفر وتستطيع العودة فأنت ابن هذا البلد ولا مشكلة. وكانت كذبة من مسؤول محطة المخابرات العراقية. قال أيضاً لدينا موافقات لإعطائك جواز سفر من السيد النائب (صدام حسين) في وقتها وهو «الكل في الكل» وكان مسؤول لجنة شؤون الشمال. قال نعطيك جوازاً وفي المطار مسؤول من السفارة سيسلمك الجوازات، ذهبت أنا وابن عمي إلى المطار، في حين أن صديقينا الآخرين قررا عدم العودة وبقيا في الأردن، فوجدنا «إذاً سفر لسفرة واحدة». عند قراءتي لهذه الورقة قلت إن هذه هي النهاية. مسؤول الجوازات الأردني لن يسمح لي بالمرور سيسأل كيف دخلت الأردن، ما خلفيتك، الخ فماذا أفعل. اتصلت بمدير الأمن العام الأردني الذي كان أيضاً كردياً وشرحت له حالتي وقلت: أريدك أن تتصل بالمطار أرجوك، أريد أن أرجع إلى بغداد. تأثر الرجل وقال: خير ولماذا؟ فحكيت له القصة فاتصل بالمطار وسمحوا لي بالدخول للعودة إلى بغداد.عدت لاحقاً إلى عمان وأكملت دراستي ثم التحقت بالثورة وبدأت قصة طويلة انتهت مع إسقاط نظام صدام.
كنت وزيراً يوم إعدام صدام ماذا كان شعورك؟
- كان بالتأكيد يستحق الإعدام في ضوء الأدلة والقرائن والجرائم والمعطيات لكن طريقة إعدامه لم تكن سليمة.
أثار الإعدام جدلاً؟
- قام الجدل لاحقاً لكن الطريقة التي نفذ فيها الإعدام جعلت منه شيئاً لا يستحقه. الإعدام يوم العيد وطريقة الهتافات وطريقة لبس الأسود على وجوههم. المالكي وقّع على قرار الإعدام وكلنا أيدنا إعدامه ولكن الطريقة أساءت إلينا وأعطت الانطباع بوجود رغبة في الثأر وأنه أعدم بسبب جريمة الدجيل ،في حين أنه من المفترض أن يعدم على جرائمه بحق رفاقه البعثيين في 1979 وبحق الكرد والسنّة أيضاً.
حرّك المشهد الحساسيات السنيّة -الشيعية؟
- الحقيقة إن طريقة التنفيذ والإخراج كانت سيئة جداً جداً جداً ومستعجلة ومرتبكة وغير مدروسة وتأذينا منها ،فصدام لم يكن يستحق إطلاقاً التعاطف الذي حصل عليه.
* تنشر بالتزامن مع صحيفة الحياة اللندنية