كل بلد في العالم له طريقته الخاصة في صنع المناخ الفني أو الثقافي الذي يناسبه ، والتي تعتمد غالباًعلى طريقة تفكير الناس ونمط تواصلهم مع بعضهم وتنظيم وقتهم ، بحيث يثبّت الناس في أغلب الاماكن مواعيد زيارتهم لمعرض أو متحف أو أمسية ما ، قبل اشهر من أبتداء العرض ، ليتفرغوا كلياً لهذا المعرض او الفعالية الفنية . ونحن لا بأس أن نتعلّم من الآخرين كيفية صناعة أجواء فنية وثقافية تناسب طموحنا وما نتطلع أليه . في هولندا مثلا حين تلتقي بالآخرين في أمسية لقراءات شعرية أو إفتتاح معرض تشكيلي ، فغالبا ما يستمر اللقاء بعد ذلك في إحدى المقاهي للحديث حول هذه الفعالية التي حضرتها ومسائل أخرى تتعلق بالفن والثقافة .
هناك لقاءات من نوع آخر بالفنانين ، لدي إتفاق مثلا مع خمسة عشر فنان وفنانة على أن نلتقي في أول أربعاء من كل شهر في مرسم احدنا لنقضي كل المساء في الحديث حول آخر أعمالنا ومشاريعنا القادمة .
يوجد هنا أيضاً ما يسمى بالمرسم المفتوح ، والذي يقام في جميع المدن الهولندية وبأوقات متفاوته ، وهو أن يفتح رسامي المدينة مراسمهم ليومين وتكون عادة في نهاية الأسبوع ، يأتيك فنانون وجمهور من مناطق مختلفة للحوار والحديث حول تقنياتك ورؤيتك الفنية ، وتكون أيضا سوقاً لشراء اللوحات . تجد نفسك فجأة تحتسي القهوة مع أشخاص يحاورونك حول أعمالك ويستأذوننك أيضاً لرؤية تفاصيل مرسمك والمواد التي تستعملها .
إضافة الى ذلك هناك إفتتاحات معارضك الخاصة ، كأن يكون لديك معرضين أو ثلاثة كل سنة ( فردي أو مشترك مع آخرين ) والتقليد الموجود في هولندا هو أن يتحدث الفنان الى الجمهور عند الإفتتاح حول تجربته الفنية وأفكاره وتقنياته الجديدة التي يطرحها في المعرض ، وهكذا يكون الأحتكاك مباشرا بين الجمهور والفنان وكذلك بين الفنانين أنفسهم ، وقبل كل معرض من هذه المعارض يزورك صاحب الجاليري أو مدير المتحف الذي تعرض لديه ، لرؤية أعمالك الجديدة والحديث عنها ، وهذه مسألة مهمة جدا لصاحب الجاليري .
كذلك ، رائع أن تكون عضواً في إتحاد الفنانين وبضعة تجمعات فنية أخرى ، وهذا مهم جدا للتواصل مع الوسط الفني والثقافي ، ليس في هولندا فقط وإنما مع بلدان أوروبية أخرى ، والرحلات التي ينظمها إتحاد الفنانين مهمة جدا هنا ، فيقوم بتهيئة باص كبير للذهاب في رحلة فنية ( عادة تكون لبلد مجاور ) يمتلأ الباص بالفنانين وينطلق الى متحف مهم أو الى معرض جديد بإتجاه ألمانيا مثلا ، وهكذا تحتك بزملائك الفنانين وتلتقي بفنانين آخرين فارقتهم منذ مدة طويلة ، وتكون الحوارات مفتوحة في الباص أو في الأستراحات وتناول الطعام أو في المتحف نفسه ، ترجع بعدها وحقيبتك ممتلئة بكتب لفنانين كثيرين مع كارتاتهم وعناوينهم ( مثلما توزع على الآخرين أيضا كتبك وكارتاتك الشخصية ) ، تعود الى مرسمك بإحساس هائل وجميل وتكون ممتلأ بعاطفة من نوع خاص .
عندها تجدد إنغماسك في أعمالك التالية وتواجه القماشة البيضاء بتقنيات وأفكار وأحاسيس جديدة ، وهذا مهم جداً وضروري في عملية الرسم .
صحيح أنك تنقطع عما كنت متعوداً عليه وتمارسه في بلدك العراق ، لكنك تحتفظ بكل ذلك التاريخ في ذهنك ومخيلتك ، وتضيفها الى الأشياء الجديدة والمدهشة التي تعلمتها والتي تعطيك خيارات أكثر للمضي في هذا الطريق الملون والجميل . أذن ليس بفضل الأنترنيت فقط اصبح العالم عبارة عن قرية صغيرة ، بل كذلك بالتواصل الحقيقي والمثمر والصحيح مع الآخرين.
صناعة المناخ الفني
[post-views]
نشر في: 22 نوفمبر, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...