قصة حب فيلسوفين ألمانيين، "هنّا آرِيندت" اليهودية و"هايدغر" الذي انتمى إلى صفوف الحزب النازي المعادي للسامية، لم تخرج علينا في فيلم بعد. مع أن عنصر المفارقة وحده، دون النظر إلى غزارة الشخصيتين وغزارة الحب، كفيل بتوفير عنصر دراما مؤثر. ولكن "هنّا آريِندت" بقيت مغرية للشاشة الفضية، بفضل أكثر من عنصر درامي واحد في حياتها. ولعل أبرزها حضورها محاكمة أحد جنرالات هتلر "أدولف آيكْمان" الذي اختطفه الموساد الإسرائيلي من مخبئه في الأرجنتين، وكتابة تأملاتها حول الشخص والمحاكمة في سلسلة مقالات نشرتها في مجلة "نيويوركر" الأمريكية. ولقد لاقت مقالاتها، التي نشرتها في ما بعد في كتاب تحت عنوان "آيكمان في القدس"، ردود أفعال عاصفة من قبل اليهود. هذا الحدث كان محور فيلم جاء لندن مؤخراً للمخرجة الألمانية "مارغريت فون تروتّا"، التي سبق أن أخرجت فيلماً عن "روزا لوكسيمبيرغ" (1986).
هنّا آريندت (1906- 1975) تنتسب لعائلة يهودية من أصل روسي. نشأت على حب المعرفة، متأثرة بنصوص "كانت"، "غوته" و"كيركغارد". وفي مرحلة دراستها في جامعة "ماربيرغ" بدأت تحضر دروس "هايدغر"، وعبرها نشأت علاقة حب عميقة بينهما، لم تتوقف إلا بمعرفة آريندت خبر انتساب هايدغر للحزب الوطني الاشتراكي. ولكن علاقة الصداقة الفكرية، لا الحب، لم تنقطع لسنوات تالية.
تزوجت مرتين، وكان الرجل الثاني الذي التقته في باريس "هنريك بلوشر"، بعد هربها من قبضة الغستابو بفعل نشاطها السياسي، شخصية أساسية في حياتها بعد هربها الثاني إلى أمريكا (1941) من السلطة النازية الفرنسية. هناك أصدرت كتابها "جذور الاستبداد" الذي جعلها علماً من أعلام الفكر الغربي المعاصر. وهناك كتبت "آيكمان في القدس" (1961). على أنها نجت من جلطة قلبية حين كانت تحاضر في إسكتلندا، ولكنها لم تنجُ من الجلطة الثانية التي أودت بحياتها في نيويورك.
ما طرحته في الكتاب هو رؤيتها أن آيكْمان لم يكن ذا إرادة سادية في عمل الشر، بل هو كيان عديم التفكير، لا يملك القدرة على أن يفكر في ما يعمل، ومجرد ماكنة وظيفية. أطروحتها عن "ابتذال الشر" (إذا صحت ترجمة مصطلحها The banality of evil) تعني أن كل الشرور الكبرى في التاريخ، ومحرقة اليهود خصوصاً، لم تُنفذ من قبل عصابيين أو مرضى مجتمع، بل من قبل بشر عاديين اطمأنوا لسلطة الدولة، ولأفعالهم التي بدت لهم طبيعية. إنها ترى أن قدرة الإنسان على أن يفعل وفق موازين الضمير والتفكير العقلاني ارتبكت بسبب النزعات الحزبية والوطنية. هذه الأطروحة في الوعي السياسي لم ترَ ترحيباً من قبل إسرائيل والأوساط اليهودية، بل عاصفة اتهام وعداء بالتأكيد.
المخرجة فون تروتا حاولت أن تنتفع من حياة آريندت الفكرية وحواراتها الدائمة مع محيطها المقرب من المفكرين، فهو فيلم مفكر يُغني العقل. وهي تنتفع من الدراما في متابعة محاكمة آيكمان، لتعرض لموقف الفيلسوف الشجاع، حتى لو اضطر لمخالفة قومه لصالح ما يراه حقيقة. والمخرجة تنتفع من استعادة الذاكرة لدى البطلة لترينا العلاقة التي لا تخلو من مفارقة بينها وبين أستاذها هايدغر الذي يكبرها سناً بمقدار. وبالرغم من أن الفيلم لا يُعنى عن قصد باجتهادات آريندت في النظرية السياسية لأنها لا تخلو من التعقيد الذي يُفسد على المشاهد متعته، إلا أنه يركز على شخصها باعتبارها تجسيداً لقوة وحكمة الضحية التي بقيت على قيد الحياة.
المخرجة فون تروتا استعانت ببطلتها "باربارا سوكوا"، التي سبق أن قامت بأدوار البطولة في فيلميها "الشرف المفقود لكاثرينا بلوم" و "روزا لوكسيمبيرغ". وبالرغم من أنها أشهر مخرجة اليوم تُنسب إلى تيار "النسوية"، إلا أنها ترفض ذلك. ولقد انتخبت هذه الفيلسوفة الألمانية، التي لا شأن لها بهذا التيار، باتجاه معالجة إنسانية مبرّأة من هوس الانتساب التحزبي.
شجاعة فيلسوف
[post-views]
نشر في: 24 نوفمبر, 2013: 09:01 م