لبعض الأفلام السينمائية نكهة خاصة يظل شميمها عالقاً في الذاكرة مهما تعاقبت السنون، ومنها فيلم إنساني، أخلاقي، لو كنت أملك سلطة ما، لأمرت بتعميمه درساً على طلبة المدارس. تدور أحداث الفيلم في قرية من قرى الهنود الحمر أثناء حقبة الحملات التبشيرية المكثفة التي كانت منتشرة في أميركا لترويج ونشر مبادئ الدين المسيحي بين سكان الولايات.
يحدث أن يصاب رئيس إحدى القبائل المرموقة بأعراض الزائدة الدودية، تجعله يتلوى من آلام مبرحة، تعجز تعاويذهم وصلواتهم الراقصة ونقيع أعشابهم عن إيقاف نزيف الألم..وبدافع من يأس، يستنجد كبار القوم، بطبيبة البعثة التبشيرية التي تشخص العلة في الحال، (انفجار الزائدة الدودية)، وتجري للرئيس عملية جراحية ناجحة، وتنقذه من موت محقق... بعد أيام.. حدث أن عض تمساح ضخم خرطوم فيل كان يشرب من النهر، كان الجرح فاغراً، والنزف جعل من البحيرة بركة دم. وصودف أن مر نفر من أعضاء البعثة التبشيرية من الموضع، وبينهم الطبيبة التي عالجت الرئيس، فما كان منها إلا أن تقدمت نحو الفيل الجريح توقف نزيف جرحه، وتضمده، والحيوان بين يديها طائع مستكين.
تمر أشهر معدودات، ويعيث بالمنطقة وباء الكوليرا، ويتجندل الناس بالشوارع والحواري صرعى، لا يعصمهم من الهلاك نقيع عشب ولا قرع طبول. ويجتمع العارفة من رجال القبيلة، ليقرروا: إن سريان هذا الوباء ما هو إلا لعنة تصبها الآلهة عليهم لسماحهم للأغراب - البعثة التبشيرية -بالإقامة بينهم، وتغيير معتقداتهم.
يجتمع دهاقنة القبيلة ويقررون - بعد مناقشات ومداولات - قتل أعضاء الحملة التبشيرية، كقرابين إرضاء للآلهة الغاضبة،وتجنب سخطها!!،
وهنا تبدأ عقدة الفيلم.: الطبيبة وقد جيئ بها مكبلة، تتشبث بأذيال الزعيم، تقول له بلغته: لقد أنقذتك من موت محقق، ألا تذكر؟؟ فادفع عني وعن أصحابي الموت تحت سنابك الحيوانات....
يتجاهل رئيس العشيرة التماسها ويشير لأتباعه بإتمام طقوس القتل المعتمدة لدفع البلاء عن العشيرة... وتقام طقوس الموت: حفلة صاخبة، قرع طبول ونقر دفوف ورقص جماعي هستيري.. يُلقى بأعضاء البعثة التبشيرية أرضا مكبلة أيديهم وأرجلهم، يليه منظر تقشعر له الأبدان.: قطيع من ضخام الفيلة تحدوهم وتهيجهم الموسيقى الصاخبة وقرع الطبول المحتدم لوطء المكبلين المطروحين أرضا.
تتقدم الفيلة المدربة: خطوة، خطوة، خطوة أخيرة، لكن الفيل الأضخم الذي يقود المسيرة، يتوقف فجأة، ويطلق صيحة مرعبة تهتز لها أركان السرادق، يتوقف رتل الفيلة وراءه، يمد خرطومه نحو أول جسد مُسجّى، إنها الطبيبة التي ضمدت جرحه، يرتد مذعوراً، محدثاً صوتاً حزيناً أشبه بأنين مذبوح،، يحصل هرج ومرج وتتراجع بقية الفيلة الى الوراء دون أن يطأوا فرداً من أفراد البعثة , ما الأمر::؟ إنه الفيل، لم ينس وجه التي ضمدت جراحه ذات يوم، ونسي الآدمي المعروف.!.
تغيم الشاشة، وفي الذهن صور شتى لحيوانات في إهاب بشر، تتنازع، تتصارع وتقتتل، وتتنكر لوطن مد إليهم ذراعيه،أغاثهم، أطعمهم من جوع، وأوقف نزيف غربتهم وتشردهم، وضمد جراحهم وما لقي منهم إلا الجحود والنكران.
وحوش في إهاب بشر
[post-views]
نشر في: 24 نوفمبر, 2013: 09:01 م