هذا وطني ...أقولها بتباه وفخر في أي زمان أو مكان ولم ولن أتردد في قولها،على الرغم مما حدث وسيحدث،نعم إنه وطني الذي لا يشبهه وطن ليس بتاريخه المضيء فقط ،بل حتى في المعاناة التي عاشها وسيعيشها مادامت إدارة البلد بعهدة بعض المدمنين على سرقته وخرابه،وإحا
هذا وطني ...أقولها بتباه وفخر في أي زمان أو مكان ولم ولن أتردد في قولها،على الرغم مما حدث وسيحدث،نعم إنه وطني الذي لا يشبهه وطن ليس بتاريخه المضيء فقط ،بل حتى في المعاناة التي عاشها وسيعيشها مادامت إدارة البلد بعهدة بعض المدمنين على سرقته وخرابه،وإحالة كل ما فيه من جمال إلى قبح ،وكأن لسان حال أعمالهم وسلوكياتهم تقول لنا بأنهم ما يزالون يفكرون بعقلية معارضة الطاغية المباد،وإن مافي هذا البلد من رقي وحضارة وعمران مازالت ملكه وعليهم الإجهاض عليها،هذا ما نراه ونلمسه من أعمالهم التي باتت مكشوفة للقاصي والداني،للأصدقاء وما أقلهم وللإعداء وما أكثرهم بفضل قادتنا الجدد بالتأكيد.
هذا وطني وأنى تلتفت هو كنز حكايات وموسيقى أغان وتراتيل قداس لذكريات لا يمكن تجاهلها أو محوها من أرشيف الذاكرة مهما تقادمت السنون ،وتلاطمت عيها أمواج البحور الآتية من الظلام.
أزقّة من وحل
المدى بفريق صفحتها هذا وطني وجهتها في هذه الحلقة هي إحدى المحلات القديمة التي إن طرح اسمها في أي محفل تجدها قاموسا وموسوعة لا تنتهي من قبس الماضي الجميل،ومع دخولنا شارع الشيخ عمر ارتدت غيوم السماء ثياب السواد ،وكأنها تشارك العراقيين أحزانهم في محرّم،مصابيح السيارات تعلن حضورها عند الساعة الواحدة ظهرا،وهذا أمر غريب وغير مألوف،ولكن ما يجعله مألوفا انه في بلد اللامألوف الذي كل شيء فيه ممكن،المظلات بألوانها تصد المطر عن أصحابها،مصلحو السيارات أغلقوا أبواب محالهم ليتبعهم أصحاب محال المواد الاحتياطية،مطعم تازة مستجديا حضور الزبائن دون جدوى وكأنه يقول للناظرين من زجاج سياراتهم إن الأمطار( تازه) وانقطاع الرزق (تازه) .
في منطقة الشيخ عمر دخلنا احد الأزقة وهو عبارة عن زقاق من وحل وماء،تتوزع على جانبيه البيوت والمحال ،وكلما أوغلنا في الدخول نحو العمق ،أوغلنا في الحزن على مشاهد الكارثة التي نراها.
بيوت الأمة وسط الأزمة
أطفال قادمون من المدارس وهم يتخذون من المطر طريقا ومظلة،(نزار باسم) طالب في المدرسة الابتدائية حمل حقيبته على رأسه لتقيه من زخات المطر،وصور جهادية أبطالها طالبات وطلاب ،تحتاج إلى ألف جواد سليم وفائق حسن ومحمد غني حكمت ليجسدوا تلك المشاهد في نصب لوحات لا يمكن تصورها.
دخلنا محلة (137)زقاق 33في المنطقة التي تسمى بيوت الأمة ،وأية أمة تناوبت عليها الأزمات وفي النهاية اجتمعت جميعها لتتنافس في خراب هذه المحلة التابعة لمنطقة الشيخ عمر،المحلة توحي للناظر لها من الداخل بأنها خربة من بقايا حروب وأعاصير وكوارث، ومع ذلك فيها حياة،فهناك طفل يلعب مع صاحبه وسط الماء !).
يقول ياسين خليل محمود وهو وكيل مواد غذائية في محلة 137:عندما حصل التغيير كنا نحلم بحياة افضل وخدمات تجعل أولادنا ينعمون بالفرح والسعادة،ولكن ما نعيشه منذ عام 2003 إلى يومنا هذا هي مآس وكوارث،ويبين محمود ان مشروع شبكة مجار جديدة بدلا من مجاريها التي تعود إلى عام 1954 سلمت إلى مقاول ولكنه سرق الأموال وهرب،ولا وجود لرئيس المجلس البلدي أو أي مسؤول في الدولة في المأساة التي نعيشها.
باجة الحاتي وعبد الكريم قاسم
تجولنا في المنطقة التي أنجبت العديد من رواد الأدب والفن والرياضة،وكانت عناوين ومواضيع كتاباتهم وإبداعاتهم،ففي جارتها باب الشيخ ولد الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي ،والروائي فؤاد التركلي والكاتب فلاح عبد الجبار نوالتي استلهموا من هذه المحلة العديد من كتاباتهم،ومنها كانت انطلاقة العديد من فناني المقام والتمثيل ،كراسم الجميلي وأميرة جواد وغيرهم كما يقول المواطن أبو عناد الذي بلغ العقد السبعين من عمره،مضيفا انه في عالم الرياضة وبالتحديد كرة القدم أنجبت هذه المنطقة العديد من اللاعبين الدوليين من أمثال صباح حاتم،وشقيقه رزاق حاتم الملقب (جوقي)،وكذلك اللاعبين الدوليين جواد كاظم وعلي كاظم وعدنان كاظم وولده اللاعب الدولي علي عدنان كاظم، وكان للمنطقة فرق شعبية خاصة بها سواء بلعبة كرة القدم أو اللعبة الرمضانية المعروفة المحيبس،ومن أشهر مطاعمها المعروفة على مستوى العراق هو باجة الحاتي،وتأي شهرته كما يقول أبو عناد لكون زبائنه من الشخصيات السياسية والأدبية والفنية الكبيرة من أمثال الزعيم عبد الكريم قاسم.
من هو الشيخ عمر؟
أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى الشيخ عمر، وهو عمر بن محمد بن عموية السهروردي شهاب الدين أبو حفص. ولد سنة 1144 ميلادية في سهرورد وهي بلدة قريبة من جبال زنجان في إيران، وإليها نسب، ولم يبرح عمره العقدين حتى غادرها مع عمه الشيخ أبي النجيب السهروردي والشيخ عبد القادر الجبلي، وأخذ منهما ومن علماء بغداد علوم عصره وبلغ الشيخ أعلى المراتب في الوعظ والعلم،يقول الشيخ صالح عبد الله التويجري وهو يتولى الجامع وإدارة المقبرة منذ 37عاما،ان الشيخ عمر السهروردي أصبح في مصاف العلماء الكبار في زمانه،وحصل على درجة علمية جعلت منه ذا حظوة لدى خلفاء بني العباس خصوصا عند الخليفة العباسي الناصر لدين الله،لكي يكون سفيره الدائم عند ملوك وأمراء البلدان الأخرى لما يتمتع به من فصاحة اللسان وقبلة المريدين وينابيع المعرفة بحسب قول التويجري.
قبلة التصوّف في زمانه
يقول التويجري : أصبح السهروردي قبلة المريدين في علم التصوف في زمانه وموضع ترحاب وإجلال أينما حلّ وذهب، وبلغ عدد طلابه في فترة الناصر لدين الله 500 طالب علم في تسليك طريق العبادة والزهد، وله مؤلفات عديدة ،أهمها عوارف المعارف في الأحوال الصوفية،مبينا ان الشيخ السهروردي توفي في بغداد في العام 1235م ودفن في المقبرة التي تحمل اسمه، وتقام إلى يومنا هذا على قبره قبة مخروطية تعد تحفة فريدة في فن العمارة على الطراز السلجوقي،
قبرٌ يفوح منه عطر الإيمان وملامح التقوى والزهد والعلم لولي شيد في غربته نصباً من المعرفة للناس. القبر محاط ببناء خشبي جميل يحيلك إلى مهابة الراقد وقدسيته عند المسلمين في بقاع العالم كافة حيث جلب الخشب في العام 1346هجرية من دولة باكستان وتم البناء في العام نفسه.
الناظر إلى أعلى القبة من الداخل لا يمكن أن يتجاهل ما خط من كتابة تقول «كل يعمل على شاكلته» .والقبر المزهو بعلو مكانة صاحبه يحيلك إلى مشهد يجاوره وهو عبارة عن نفق صغير مظلم يحتضن رفات آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله الذي قتل على يد المغول سنة 258 ميلادية.
الشيخ عمر والإمام الكاظم
قبة السهروردي المرتفعة بنحو 7,7متر تقريباً هي من ضمن ست قباب موجودة في العراق بنيت على الطريقة السلجوقية، وهي قبة مشهد أمام الدور التي تقع في ناحية الدور 40 كيلومتراً شمالي سامراء وقبتا مشهد الشمس وذي الكفل في محافظة بابل وقبة الحسن البصري في قضاء الزبير التابع لمحافظة البصرة وقبة زمرد خاتون زوجة الخليفة المستضيء بأمر الله في مقبرة الشيخ معروف في بغداد. يعج المرقد بالزائرين من جميع بقاع العالم.
يجاور مرقد الشيخ عمر السهروردي مرقد السيد إبراهيم، وهو احد أحفاد الإمام الكاظم (ع). المشرف على المرقد، متوكله جاسم كاظم الفرطوسي يقول: إن السيد المتوفى سنة 780ميلادي هو إبراهيم بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن علي بن يوسف بن منصور بن عبد العزيز بن عبدالله بن الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق عليهم السلام حيث تم توسيع بناء المرقد في العام 2002 م من قبل المتبرع السيد عدنان السيد فتاح خليل الكاكائي. وبعد التغيير أيضاً جرت عملية ترميم أخرى بعدما استهدفت المرقد سيارة مفخخة، وتحدث الفرطوسي عن كثير من الكرامات التي أصبحت حديث الناس للسيد إبراهيم المجاب في المحلة أيضاً حسينية الشيخ عمر قام أهلها ببنائها تبرعا.
من أسمائها (المعدان،السور)
يقول الحاج مصطفى سلمان (80 عاماً) للمدى ان المحلة كانت في السابق عبارة عن غابة من أشجار الكالبتوز تخشى الأهالي الوصول إليها لوجود أفاع وحيوانات مفترسة فيها، بعد ذلك اتخذها الأهالي مقبرة لموتاهم، وسرعان ما تحولت إلى محلة سكن في العهد الملكي. وفي مطلع ستينات القرن الماضي أصبحت أهم مركز صناعي لتصليح السيارات في العراق. فالمدينة الممتدة بين باب المعظم شمالا حتى مرآب النهضة جنوبا زحفت إليها محال وورش التصليح الصناعية، وتغيرت طبيعتها السكانية وغادرها معظم ساكنيها، ولم يتبق منهم إلا من تربطه بالمحلة طبيعة المهنة التي تتوافق مع محيطها ، وتشير الخرائط التأسيسية للمحلة إلى العام 1908 ودونت تحت اسم «مدينة المعدان» أو محلة السور لوجودها قرب سور بغداد التاريخي.
الباب الوسطاني
ومن أهم معالمها ما تبقى من سور بغداد الباب الوسطاني أو باب الظفرية الذي شيد في خلافة المسترشد بالله في العام 1123م وسمي بالوسطاني لتوسطه سور بغداد الذي استغرق بناؤه 23 سنة. ويبلغ طول السور 9688 متراً وهو بعرض 5.5 متر، وظل قائماً لمدة 800 عام، وهدم في عهد والي بغداد العثماني مدحت باشا سنة 1870م لاستخدام مواده في بناء مركز لحكومته. ويمكن رؤية هذا الباب شامخاً على طريق محمد القاسم السريع ذهاباً وإياباً، والباب بني من الطابوق بعرض ثلاثة أمتار وارتفاع أربعة أمتار وشيده الخليفة العباسي المسترشد بالله، ونقش في واجهة كل من جانبيه أسد صغير منحوت بطريقة فن الغرافيك التشكيلي. ويشاهد الناظر إليه نقوشاً ورسوماً على شكل أغصان وأوراق نباتية ونجوم، وتعلو البرج كتابات غير مكتملة المعنى، ويعد الباب من أكثر أبواب بغداد حصانة حيث تتجلى فيه الهندسة المعمارية..
مدفع أبو خزّامة والخرافة الشعبية
دائرة الآثار العراقية تولت ترميم وإصلاح هذا الباب في بداية ستينات القرن الفائت، واعتمد كمتحف للأسلحة القديمة، لكن سرعان ما أهمل وانتقل ما فيه إلى وزارة الدفاع القديمة في العام 1967. المدفع الذي كان يشاهد عند باب الوزارة والمعروف بـ«طوب أبو خزامة» كان احد مقتنيات متحف الباب الوسطاني وقد سرق بعد العام .2003.
وعن مدفع «أبو خزامة» تداول الناس الكثير من الحكايات التي تدل على بساطة وعفوية الإنسان، وعن تلك الخرافات التي تقول ان المدفع نفد منه العتاد في احدى المعارك، فما كان منه إلا ان التهم الحجارة والتراب من الأرض وقذف بها الأعداء، لذا تجد الكثير من الناس، خصوصاً النسوة من بغداد يوقدن الشموع على مقربة منه ويزرنه ويتباركن به ويقدمن له النذور.
لك الله يا وطن
المحلة التي تجاهلتها الدوائر الخدمية سابقاً ولاحقاً، تعاني شوارعها من التخسف وبعض بيوتها آيلة للسقوط لقدم بنائها بسبب تأثير تخسفات التربة، وزادت الطين بله فيضانات الأمطار التي جعلت منها بحيرة عائمة بالبيوت، وتخلو المحلة من أي دائرة صحية حكومية أو أهلية ولا وجود لأي متنزه أو مساحة خضراء رغم وجود فضاءات واسعة يمكن استغلالها. شوارعها لم تعرف الترميم منذ خمسينات القرن الماضي رغم ان المحلة كانت رافدة للكثير من أعلام الأدب والفن والرياضة، منها تخرّج الكثير من قرّاء القرآن وقرّاء المقام والرياضيين والفنانين،ولاننسى ان المحلة كان فيها أكبر معمل لتصنيع الألبسة العسكرية،ولكنه الآن عبارة عن هيكل حديدي،ومن بنايتها الشاخصة أيضا مقر مديرية الإطفاء.
المحلة التي ستنقرض بالتأكيد مع زحف محال تصليح السيارات وبيع الدهون وصناعة أنواع من المعدات الحديدية، ونحن نودعها يرنّ بأسماعنا صوت من يقول( لقد اهتزت الأرض ...ولم تهتز ضمائر قادتنا الجدد) . . فلك الله يا وطن.
