TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "جماليات الشرّ"

"جماليات الشرّ"

نشر في: 29 نوفمبر, 2013: 09:01 م

يخيل إلينا أن الكثير من التحقيقات الناجزة في تاريخ الفن الأوروبيّ الحديث المنبثقة من مرجعيات في الفكر والفلسفة، تطلع من عنف رمزيّ. إذ خلافاً للفكر الأفلاطونيّ الذي كان يُدمج (الجميل) بـ (الخيِّر)، فإن طليعيّي الفن والأدب الأوروبيين قد عالجوا المشكلة بطريقة مختلفة جذرياً. وحسب بودلير فإن التماهي بين الجمال والخَيْر في تاريخ الأدب لن يبُقي لنا سوى أن نشاطِر الجحيم.
منذ بودلير، وهو ناقد تشكيلي عن جدارة، كانت توجد في النصوص الأدبية والأعمال التشكيلية بذور واضحة لعنف داخلي وليس مجرد توتر نفسي كما قد يخيّل للوهلة الأولى. إن مجموعته الشهيرة "أزهار الشر" تعلن ما يسميه أرفيه فيشر في كتابه (Mythanalyse du futur الذي نعود إليه) بـ (جمالية الشر)، وهذه ستجد صدى واسعاً لدى شعراء وفنانين ملاعين. نتذكر بلا شك في هذا السياق "فصل في الجحيم" و"خلخلة الحواس" ورامبو وفرلين وأرتو من بين آخرين. لقد تزامنت هذه الموجة مع عنف صارخ سيتصاعد لدى رسام كبير مثل فان كوخ إلى مستوى تشويه ذاتي يصفه فيشر بأنه "إخصاء رمزيّ، لقد قطع أذنه ثم انتحر". جزء من الفن الأوروبيّ الحديث يصير رديفاً للعنف الرمزيّ وغير الرمزي، منطلقاً من مرجعيات وأصول فكرية راسخة.
كان العنف يجد على طول وعرض الفن الأوروبيّ والأمريكيّ تعبيرات له. لقد اُستثمرتْ مفهومة (الطاقة) الفيزيائية بهذا الاتجاه: طاقة الضوء عند الانطباعيين كانت حالمة بالطبع، لكنها التقت، عبر طاقة الكهرباء المُسْتَحْدَثة منذ بعض الوقت، بحركة (المستقبلية) الإيطالية كتعبيرٍ جمالي عُنْفي عنها. كان المستقبليون يشدّدون على فكرة الحركة والسرعة والعنف، وكان بعضهم يؤيد فكرتي الحرب والفاشية. لقد قادت المراجعة الشاملة لمفاهيم التصوير التقليدية إلى (تحطيم) الفضاء التصويري والشكل الآدمي (انظر مثلاً دو شومب في عمله: عار يهبط السلم). وقادت إلى فكرة (التزامُن) لدى روبير دولوني، وكان راؤول دوفي يرسم عمله (جنية كهربائية).
ساهم فرويد ومدرسة التحليل النفسي من جهته في تصعيد مفهومة ساكوباثية للعنف في الفن الحديث. فقد قامت نظرية فرويد على أساس تعاطي المبدعين كونهم مرضى من نمط خاص والفن بصفته تسامياً للنزوع الجنسي المكبوت. إننا نجد في مفهومة (الكبت) ضرباً من عنف صريح آخر.
لقد قاد ذلك، من بين ما قاد إليه، إلى اعتبار القطع الفنية تعاويذ سحرية وطلاسم واقية وتعزيمية، وشُيِّدتْ عمارات ضخمة لمتاحف الفن الحديث، في القارة الأوروبية والأمريكيتين، تقدّس الفن الحديث نفسه بوصفه تعويذة للعالم المعاصر كما يرى المفكر الكنديّ فيشر سابق الذكر.
انطلاقاً من مفردات مدرسة التحليل النفسيّ ستنبثق رويداً رويداً تلك الحركات التي تستهدي جهارا بالعنف كتعبير عن المكبوت الاجتماعي والفرداني. وستصل إلى ذروة من التطرّف في تلك التيارات التي أطلق عليها (الحركّيون cinétiques) التي ذهبت إلى حدّ استخدام المتفجرات والبنادق والنار والصواعق والليزر في ما بعد.
كان إعلان العنف واستخدامه في الفن الحديث محاولة للتعبير عن (الجمال) من زوايا غير مألوفة ومن أوجهٍ بشعة. منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كان هناك مسعى بارز لمعالجة التعاسة الروحية وكانت فكرة (الجحيم)، منذ بودلير حتى جان بول سارتر هي المهيمنة على الخطاب الفلسفي والجمالي.
كانت هناك، إضافة إلى ذلك، محاولات لأن يعالج الفن ابتذال اليومي. منذ الانطباعية، لم يتوقف الرسم عن تقديم توصيفات (غير جميلة) للواقع، في الرسم والنحت. تيارات ومذاهب وحركات مثل (الواقعية الجديدة) و(فن البوب) و(التلطيخية) و(فن الأرض) و(الفن الفقير) تقدِّم كلها تصورات بلاستيكية عن أشياء لم تكن لتعتبر في ما مضى جزءاً من مفردات الفن: حذاء عسكري ضخم، شراشف وسخة، التعفّن على الحيطان، قطع الصابون، مشدّات الصدور، المزابل بل الغائط نفسه والقيء.
لقد أوصلتْ أخيراً مدرسة (الفن الجسدي) العنف الرمزيّ إلى أقصاه مختارة الألم الفيزيقيّ للجسم البشريّ بل التعذيب كوسائل للتعبير الفني وهي تعلن أن الموت والمعاناة إنما هما طرفان رئيسيان يشكلان العالم وعملية الخلق الفنيّ بالتالي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram