من الغرابة أن يحضر فنان ما إلى افتتاح معرضه الشخصي ، وصاحب الغاليري ينتظر بفارغ الصبر ، حيث الأعمال لم تصل بعد والقاعة ما تزال فارغة ، وهذا الأخير يسأل الفنان وهو ينظر إلى ساعته عن وقت وصول الأعمال وعن سبب تأخير وصولها ، وهل استجد شيء في الموضوع ، فما كان من الفنان بكل هدوء واسترخاء إلا أن يخرج من جيبه مجموعة من الأسلاك المعدنية وكماشة أو قاطعة أسلاك ويضعها على الطاولة ويقول له بكل برود ، هذا هو المعرض . والفنان الذي أقصده لم يكن مجنوناً أو غريب الأطوار ، كذلك هو لم يسع إلى السخرية من صاحب الغاليري أو التعالي على الجمهور ، بل كان يقصد ما قام به وقاله بشكل كامل وربما بشكل عفوي . كان هذا الفنان هو النحات الأمريكي ألكساندر كالدر ( 1898 – 1976 ) الذي قام بثورة حقيقية في تركيب منحوتاته واستخدام مواد غير تقليدية في أعماله الطليعية التي تضمها كل متاحف العالم المهمة اليوم ، هذا الفنان الذي أخرج الفن من صمته وهدوئه المعتاد وأدخل عليه حركة كانت هي الطابع الذي ميّز تلك الأعمال ، حتى سميت طريقته بالفن الحركي ( وهذه التسمية كان قد أطلقها عليه الفنان الفرنسي دوشامب ، حسب النقاد ) لأن أعماله كانت تتحرك بفعل الهواء وهي تتدلى من السقف عادة وتترك ظلالاً متحركة أيضاً على الحيطان المجاورة ، تلك الأعمال التي تتحرك بتوازن غريب ومحكم حيث يوزع الكتل على أسلاك معدنية متداخلة ومتقاطعة مع بعضها وكأنها شجرة تحمل ثمرات معدنية تهتز بفعل رياح خفيفة .
لكن كيف توصل كالدر إلى أعماله هذه وماهي خطواته التي قطعها كي يترك في النهاية مواد النحت المعروفة ويتجه نحو مواد تبدو غير مهمة ومهملة ومتاحة للجميع ، كيف اختصر كل متريال الفن بأشياء بسيطة ؟ الجواب يأتي هنا من خلال معرضه (حركات في الفضاء ) الذي استضافه متحف مدينة لاهاي في هولندا ، كذلك ما جاء في مذكراته التي دون فيها يومياته وتطور أسلوبه في النحت ، وهنا نعرف أن زيارة واحدة إلى مرسم الفنان موندريان في باريس كانت كافية لتغيير كل شيء في حياة ألكسندر كالدر ، كانت خطواته التي خطاها وهو يدخل مرسم الفنان الشهير هي بداية الثورة التي حدثت في طريقة تفكيره ورؤيته للفن ، كانت حاسمة تلك الزيارة التي حدثت في أكتوبر سنة 1930 ، وهو يذكرها في مذكراته وكأنها حدث مقدس ، كيف لا وهي التي غيرّت طريقه إلى الأبد . كان يحلم بلقاء الفنان الكبير ، هو الفنان الشاب الذي كان منشغلاً ببعض المحاولات لصنع أشخاص من الأسلاك المعدنية ، بينما كان اسم موندريان يشغل العالم كله بأفكاره وأعماله التجديدية ، حيث كان يرسم ويعيش في المرسم وهو يتابع بحوثه الطليعية في التجريد الهندسي . بعد تلك الزيارة قضى الفنان كالدر فترة من حياته وهو يكوّن أعمالاً مستوحاة من السيرك والبهلوانات ، ثم استقر بشكل نهائي في باريس بعد أن تخلى عما تعلمه من والديه ( كانت أمه رسامة ووالده وجدّه نحاتان ) وقد ترك خلفه عدة النحت التقليدية واستبدلها بالأسلاك المعدنية ومقص الأسلاك وبعض القطع الخشبية . تبقى مكانة كالدر في النحت الحديث تشبه برأيي مكانة خوان ميرو في الرسم ، وهناك مقاربات كثيرة بينهما تشير إليها تلك الأشكال الصغيرة التي استخدماها وهي تسبح في الفضاء بعفوية . في معرضه نرى بوضوح تطور أعماله وتقنياته والأدوات التي أستعملها والمواد التي من خلالها جعل العالم كله ينظر إلى أعماله بإعجاب قلّ نظيرة واحترام كبير لطليعيته وثوريته في الفن الحديث.
زيارة واحدة تكفي لخلق معجزة فنية
[post-views]
نشر في: 29 نوفمبر, 2013: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
محمود المعمار
المتابعه الفنيّه والغنى والأثراء لمعلوماتنا من قبل الفنّان ستّار كاووش ، عمل ملهم لكلّ فنان ومتابع ومثل يحتذى به لكلّ فنان في العراق والبلاد العربّيه في كشف الكثير من المعرفه بجانب الأبداع الفّني والموهبه الشخصيّه .!