بالطبع أن يبدو كل ما هو طبيعي في العوالم المتحضرة، الديمقراطية، بالنسبة لشعبنا، غرائبياً كأنه آتٍ من جراب حواة ماهرين، يتعذر فك أسراره وخفاياه. وكيف يمكن ان لا نندهش ونُصدَم، ونحن نتابع وقائع تصويت برلماني يتقرر فيه بالأغلبية المطلوبة دستورياً، مصي
بالطبع أن يبدو كل ما هو طبيعي في العوالم المتحضرة، الديمقراطية، بالنسبة لشعبنا، غرائبياً كأنه آتٍ من جراب حواة ماهرين، يتعذر فك أسراره وخفاياه. وكيف يمكن ان لا نندهش ونُصدَم، ونحن نتابع وقائع تصويت برلماني يتقرر فيه بالأغلبية المطلوبة دستورياً، مصير زعيم سياسي يجمع خيوط إمبراطورية إعلامية، وثروة تقدّر بأربعة مليارات دولار، وحزباً يمينياً يفوز على مدى ثلاث سنوات؟
كيف لا تقشعر أبداننا، ونحن نصحو على خبر إقالة بيرلسكوني، بعد ان تجرّأ القضاء على الحكم عليه بالحبس لعدة سنوات، بتهمة التهرب الضريبي؟!
إنها أمور تدخل في باب العجائب والغرائب، بل فضيحة مدويّة بالنسبة لكل عراقي عاش محنة عشر سنوات من المذلة والفساد السياسي والأخلاقي، وتعذر عليه أن يرى خلالها موظفاً من الدرجة الثانية في دائرة المختار، يُحاكم ويسجن، وتستعاد منه الأموال التي نهبها من خزينة الدولة.
كيف لا يصاب كل عاقل منا بالدوار، وهو يسمع عن قضاء يحكم على رئيس وزراء دولة ديمقراطية "مُمتحنة اخلاقياً" بالسجن، لمجرد انه تهرب عن استحقاقٍ ضرائبي، وربما ليس هو السبب، بل احد موظفيه، وقد لا يتعدى الاستحقاق "شروى نقيرٍ" بالنسبة لأهل "ماننطيها"؟
ثم يا للعجب.. فالحديث يدور عن القضاء..!
هل بقي لهذه المفردة "النابية" من معنى، بعد كل هذه السنوات، التي انهارت فيها كل المقاييس والقيم، وباتت شريعة "خيمة تحترق" ومفاهيمها، وأدواتها وآلياتها، هي التي تحكم البلاد. أبقيت حرمة لقضاء، يجري تحت انظاره ومسامعه، نهب المال العام واستشراء الفساد، وفبركة تهم الإقصاء والقتل على الهوية، وتزوير الشهادات لموجبات الاستيلاء على الوظائف الكبرى للابناء والبنات وذوي القربي والمتزلفين والبخارين؟ أثمة قضاء عراقي حقاً، يرى ويسمع ويرد الجور وينتفض ضد الفساد والشبهات؟
بيرلسكوني الملياردير اللعوب، لا يمارس غواياته تحت مسمياتٍ دستورية، او برهابٍ ديني ومذهبي. انه يفعلها بحكم العادة، امام عدسات التلفزيون، وربما تبثها قنواته ووسائل إعلامه، كسباً للسبق الصحفي، ويذهب دون استدعاء، الى مكاتب العدل، اذا استُدعي، تماماً كما يفعل مختارنا وعصبته الملتفة حوله طمعاً بكرمه، بعد عوز!
هل انتبه أحدكم الى وقع أقدام السيد المالكي، وصفوته من الوزراء وكبار المسؤولين، وهم يدخلون على مجلس النواب، لمجرد الاستماع الى وجهة نظر مخالفة، او استفسارٍ مغفّل؟ وهل أصابت احدنا لوثة الاعتقاد بأن من الممكن ان يتجرأ القضاء ويستدعي رئيس وزرائنا ليستفهم منه عن حيثيات ما يقال من ان القتل اليومي بالمفخخات، له علاقة بالجهاز الكاشف، الذي لم يعد طفل في مجاهل إفريقيا لم يسمع بانه فاسد لا علاقة له بغير العاب الأطفال؟
ليتطوع احدنا، ويعدد قتلانا وجرحانا يومياً، بسبب هذا الجهاز، والفاسدين الذين يقفون وراء شرائه، وعشرات المعدات والأجهزة الامنية والعسكرية فاقدة الصلاحية. وليشخص بيسر، من بيدهم الامر والنهي والصلاحية في حماية أرواحنا، وكيف تسلل الموت الينا من تحت أرجلهم، ومن خلال انكشاف أضابير الأسرار الدفينة الحقيقية او الملفقة، التي تتسرب لتتحول الى احزمة ناسفة او سيارات مفخخة..
أحقاً أن القضاء الإيطالي يمتلك من الشجاعة بحيث يحكم على رئيس وزراء امضى ثلاث دورات، كما يريد رئيس مجلس وزرائنا، على كرسي السلطة؟ وهل يمكن أن تحصل معجزة، (من باب المباهاة أمام الامم الأخرى باننا أمة ايضاً)، فنرى مختارنا وقد تطوع للوقوف امام القضاء وطلب الرحمة بتخفيض الحكم عليه في قابل الايام، او على الأقل تجاسر على ولده فهربه الى الخارج حماية من ملاحقة قانونية، على ما لا يمكن التنصل منه حتى بعد خمس دورات..؟
أليس من حقنا ان نندب حظوظنا، ونحن نحاول ان نقارن انحطاط وتدني وفساد أوضاعنا وحكامنا، بما يدور في امة تحترم كرامتها الوطنية، وتضع القانون والدستور والإرادة المقررة، فوق هاماتها، وتلفظ عنها وزر فاسد اذا فسد، حتى وان كان مليارديرا، وصاحب إمبراطورية إعلامية، وزعيما شعبياً، ورئيسا لبضع دورات..؟
لا تصدقوا ما يقال عما جرى للزعيم الايطالي بيرلسكوني، فان ذلك من بنات الخيال الاتي من العوالم المسحورة..!
كما لا تصدقوا، أننا شعبٌ (او امةٌ) مغلوبٌ على أمره. فنحن نعرف جيداً كل ما يدور في دولتنا اللا دولة، ونعرف ان لنا دستوراً جرى تفصيله على قياسات مكوناتنا، وهو مسكونٌ بالتقيّة، ونعرف انه لا بد ان يهتز يوماً فينفض عن صفحاته ومواده، غبار الصمت الصبور..
نحن نعرف ان العدالة عندنا ليست طريحة الفراش، كما يقال، او مكبلةٌ بقيود جبابرة التسلط والفساد، وهي تتحفز وتنتظر الفرصة السانحة..
المشكلة والاستعصاء فينا نحن، كشعب وأمة، ضيعهما الصبر وكثرة الرجاء، والانحناء للمقادير..
وقد لا يكون هذا، بل الخديعة التي أحاطت بنا من كل صوب وهي تصور لنا المختار حامي حمى ولايتنا المذهبية، وطهارته ونظافة يده وصولجان عدالته، التي ستُقرب ظهور الإمام المنتظر..!
يا لبؤس ايطاليا على قضائها وبرلمانها ومجلس شيوخها..
ويا لفجيعتنا وعارنا..!
جميع التعليقات 1
karimabraheem
جميل , ويا لفجيعتنا و عارنا ..