استأثرت الأمكنة باهتماماته , ويكاد لا يخلو نص من نصوصه من ذكر مسمياتها أو أوصافها في متونها ,لا سيما الأمكنة الأثيرة في ذاكرته والممتدة عبر سنواته التي تجاوزت الخامسة والستين من عمره المديد ,فمسميات ،مثل جسر الحلة , وبيت بداري ,والبرحية ,والطاق , وشط
استأثرت الأمكنة باهتماماته , ويكاد لا يخلو نص من نصوصه من ذكر مسمياتها أو أوصافها في متونها ,لا سيما الأمكنة الأثيرة في ذاكرته والممتدة عبر سنواته التي تجاوزت الخامسة والستين من عمره المديد ,فمسميات ،مثل جسر الحلة , وبيت بداري ,والبرحية ,والطاق , وشط الفرات, وكازينو الجندول , و... و... تتسيد أغلب نصوصه بمهارة المنتج المبدع وليس كما يذهب البعض إلى زج بعض المسميات في نصوصهم لإضفاء صفة الشمول ورسوخ العلاقة بينهما دون ان يحقق هذا النهوض بما يريده صاحبه من إضافة نوعية يعتقدها ويتوخاها.
ومن غير ان يدرك وظيفة مثل هذا الاستخدام الطاعن في الإخفاق , في حين يسعى الشاعر الكبير موفق محمد عبر ما أنتجه من نصوص إلى وضع التسمية المكانية في نسيج نصوصه واستثمار كل طاقاتها لإعلاء شأن النص والارتقاء به ،بحيث تبدو من صميم التجربة المدونة وليست مقحمة عليها قسرا ,ويتذكر المتابع لما ينشره موفق محمد ذلك النص القصير والثري بإمكاناته التعبيرية وطاقته الإيحائية الذي يقول فيه :
جسر الحلة / طالت لحيته وابيضت/
فتعلّق فيها الصبيان / جسر الحلة /مكتئبا أسيان/
ولا أريد هنا ان أستعرض نصوصه التي حفلت بأسماء الأمكنة وتوصيفها، فهي كثيرة وتحتاج إلى قراءة نقدية متأنية وفاحصة تشير بالضرورة إلى ثراء تجربة الشاعر وغنى قاموسه اللغوي وحساسية الموضوعات التي يتناولها ,ولكني أردت الإشارة العابرة إلى نصوص موفق التي امتازت بخاصيتين متميزتين هما :
أولهما :الاستخدام الدائم للموروث الشعبي العراقي /الغناء والأمثال الشعبية ,وثانيها الإكثار – كما أشرت – من أسماء الأمكنة وتوظيفها بما يعين النص على إيصال رسالته وبلوغ أهدافه ,وسنرى كيف ان قصيدته كازينو الجندول (المنشورة في ثقافية المدى بتاريخ 22/10/2013 ) حققت ذروة تألقها بجعلها بين تلك الخاصيتين – الأمكنة والموروث الشعبي – ومنحتنا – نحن القراء متعة التذكر ومتانة البناء ونبل المقاصد ووضوح الفكرة ,ولم تغرقنا في طلاسم وتعميات وألغاز الاستخدامات الخاطئة والشاذة التي شاعت في المشهد الشعري العراقي خلال العقود الأخيرة ..
وكما هو شائع ومعروف فإن العنوان هو ثريا النص , الكاشف عن جوهره ونسيج علاقاته ,المفضي إلى دواخله ونبضات قلب منتجه , الراشح عن المعنى المقصود في بناء سليم لاتعتوره الهنات ولا تفسده مشكلات الصياغة وإرباكات الوعي القاصر , و- كازينو الجندول – قبل ان يكون ثريا نص الشاعر موفق محمد ,هو كائن حي ينبض بحركة رواده منذ ما يزيد على سبعين سنة مضت ,وفيه ملتقى نخبة أدباء المدينة /الحلة في ستينات وسبعينات القرن المنصرم ,وعلى أرائكه استمعنا وتعلمنا من الذين سبقونا في المعرفة والأدب , عبد الجبار عباس (الناقد المعروف) ,وعائد خصباك (القاص) ومؤيد الطلال (الناقد) و ناجح المعموري (القاص/ الباحث ) و المرحوم قاسم محمد حمزة (الناقد /المترجم) و المرحوم قاسم عبد الأمير عجام (الناقد /الباحث) ,وموفق محمد (الشاعر) ,ومهدي العبيدي (الباحث) ,وعبد الكاظم عيسى (الشاعر) ,والعديد من الأسماء الكبيرة في حياتنا الثقافية الراهنة , إذاً فالتفاتة موفق محمد جاءت وفاء واعتزازا بحاضنتنا الأولى التي شهدت كتاباتنا الغضة ومشاكساتنا البريئة – والتي تحولت في ما بعد إلى مكان يرثى له بفعل عوامل كثيرة أقلها غياب الرعاية والاهتمام وتفشي الخصومة بين سلطة الإبداع ورموزه وبين سلطة القمع بتعدد مسمياتها وأزمنتها .. ولكن كيف حقق لنا الشاعر هذا الانتماء والاحتفاء بالحضن الأول .. هذا ما ستكشفه – كازينو الجندول- في متنها الجميل وما ستثيره من ذكريات خالدة في ضمائرنا ونفوسنا التواقة إلى النور والسعادة .
في مستهلها نقرأ :
.. قبل خمسين عاما /تلك التي لم يعشها نوح/ يعبر الجسر إلى الصوب الصغير فتى/ ليرى النهر وهو يمدّ برفق ساعده /ليطوي خصر امرأة اسمها الجندول /فجنّ مما قد رأى / نهر وامرأة يغرقان في سورة قبل مائية ..
إذاً هذه هي جندول موفق محمد ليست كازينو للقاء الأصدقاء – كما هي في الواقع - بل هي كما رآها امرأة يطوي خصرها نهر الحلة , ولكن لم تجسدت له في مخيلته بهذه الصورة الأنسية وهو فتى بعمر الصعود إلى مراهقته القاحلة آنذاك , فهو ابن الثلاثة عشر عاما إذا ما أخضعنا سنوات عمره إلى معادلة رياضية , وكان يعبر الجسر المحاذي لها إلى الصوب الصغير فتى ,فها نحن إزاء أنسنة المكان وبث الروح فيه ليكون شاهدا أمينا على فتوة الشاعر التي لا يرى خلالها كل الأشياء المحيطة به غير نساء مكتنزات بالطيبة والمحبة والألفة الفراتية التي أصبحت في اغلب نصوصه شواهد على زمن جميل غادرنا بعد ان لوثته أوضار الحروب وصار فتيانه رجالا يعرفون أسرار الملتفعات بالسواد والمثقلات بهموم اليتامى وشظف العيش ...و.. (فجنّ مما قد رأى) جملة إدهاش صادمة انتزعها موفق محمد من سياقات النصوص المتوارثة كــ ((سرّ من رأى)) مثلا ووضعها في سياقها الفاعل في نسيج – كازينو الجندول – ولتوكيد ما زعمنا في سالف قولنا فإن نصوص الشاعر تقوم على ركيزتين مهمتين – كما أوضحنا- هما الموروث والأمكنة , فهو يبثهما في متون نصوصه ببراعة صوغه ومهارة نساج محترف ,يقول :
.. فنرقص على صوت الفاختة/ وهي تهز مهد وليدها/
(كوكوتي .. وين أختي .. بالحله )/فنتأكد بأن الحلة /
أم من لا أم له / فلم ينم أحد تحت سقفها غريبا ..
و .. يلما ردتني /تكسر جناحي ليش / يلما ردتني ..
و .. بطه وصدتني /بين الجرف والماي يا داده / بطه وصدتني ..
وهكذا فإن موفق محمد وفي – كازينو الجندول – يستثمر رسوخ الموروث الشعبي في ذاكرات الناس ,ليفجر طاقاته التعبيرية بالنص إلى ذروته ليحقق بذلك حضوره واتساع معجبيه ,وأظن ان الشاعر أدرك بوعي ومنذ نصوصه المبكرة قيمة الموروث وثراء الأمكنة , فتعامل معهما على ضوء هذا الوعي والإدراك ونجح في مبتغاه هذا .وفي مقطع لاحق تتحول الجندول المرأة الأم إلى مدرسة – والأم مدرسة إذا أعددتها !- إذ يراها موفق محمد :
.. – الجندول مدرسة / اساتيذها النهر والنخلة والفاختة /
في الدرس الأول قال النهر وهو يطل علينا / ببدلة أنيقة
من أمواجه / الدين لله والوطن للجميع / ولم يسأل أحدا
عــــــــــن أســــــــــــمه .......
فالجندول مدرسة منحت عقولنا فسحة الحرية وعلمتنا الحكمة التي غرسها النهر في درسه الأول ورسخ في مفاهيمنا ان البلاد تتسع ساكنيها بغض النظر عن اختلاف الوانهم و مشاربهم ,ولكن هل ساد هذا المفهوم الانساني والحضاري وكم هو نصيبه من التحقق على ارض الواقع ,هذا ما نترك الأجابة عليه لمنتج النص ولمريديه الكثر ...و ( كانت السينمات والنوادي الليلية/ تقع على بعد شمرة عصا من الجندول /والحلة تمد يدها بيضاء من غير سوء ..) هكذا كانت الحلة قبل خمسين عاما تلك التي لم يعشها نوح – كما يقول الشاعر ولكنها الآن مجرد خرائب وسينماتها أصبحت مخازن لأصحاب رأس المال المتراكم ونواديها تحولت إلى مقاه يتصاعد في زواياها دخان إركيلات شباب النت والنقال والرؤوس الخاوية , فهل نحن نمضي إلى وراء أم نتطلع إلى غد مترع بالأمل والحياة ؟
بعينيّ هاتين رأيت النهر يغمض عينيه قبل ان يصل الجندول/
لئلا يراها بهذا الخراب الذي يعصر القلب /فيجري نائحا
بآلاف الفخاتي / متوسلا بابل مرة / ومرقد النبي أيوب
مرة أخرى /فلم يجد لها أثرا ..
هذا هو واقع الجندول الحلة وحلة الجندول خراب ونواح ونهر يغمض عينيه قبل ان يصلها , وحدها هي تنام على خد فراتها مهمومة بالفقدانات المتناسلة التي أورثتها – بساطيل أجلاف القرى المتحاربة التي لا تميز بين الجك وبين البك تاركين الوطن كعصف مأكول , إنها محنة غياب الهوية ونمو الاشنات التي لم تشبع بعد من ضروع هذا الوطن المبتلى بالجهلة الذين لا يميزون بين الجمل والناقة ولا بين البك وبين الجك ,هي محنة ما بعدها محنة أيتها الجندول الأرملة التي
.. قبل ان يعدموا النخلة المجاورة للنهر / صاحت بكل جمارها/
يا نهر ان الجندول لمت رمادها ونزلت إليك بطة/ تئن
بآلاف النايات / فيسود وجه النهر / ويجري أعمى
يتلاطم بالظلمات ...
ولا أظن ان نهاية كهذه تليق بالجندول وبالحلة التي احتضنتها ... وإنّ غداً لناظره قريب .. وخلاصة القول ان موفق محمد في كازينو الجندول هيّج مواجعنا وأثار شجوننا وأخذنا برفق إلى الخمسينات وبهائها وجعلنا نترحم على الراحلين من أصدقائنا وندعو للحلة ولجندولها ولشاعرها بالعافية والسلامة والمزيد من الأبناء البررة الأوفياء.