علي حسن الفوازوسط الفوضى التي تجتاح كل شيء، هل يمكن للسينما ان تقدم نبوءة صورية ازاء هذه الفوضى؟ وهل يمكن لأزمات الواقع وصراعاته ان تكونا جزءا من محمول هذه النبوءة، تلك التي تفترض ان العالم الضاج بصراعات سرية وعلنية مقبل على حروب صغيرة اخلاقية وسلوكية تلامس يوميات المدن والناس والعلاقات والحاجات؟
المخرج العالمي العربي يوسف شاهين حاول ان يخترق تاريخه القديم في صناعة السينما(الشخصية) التي جعلته بعيدا عن المناخات الشعبية لسنوات طويلة، باتجاه التعاطي مع صناعة نمط اخر، اكثر عمومية، لكنه اكثر توغلا في تفاصيل جسد المدينة والمجتمع. اذ عمد مع المخرج الشاب خالد يوسف الى اخراج فيلم(هي فوضى) الذي يعرض حاليا في اغلب دور السينما المصرية ويحقق ايرادات كبيرة، ليضع سينما يوسف شاهين امام مؤشرات تعبّر عن مجموعة من المعطيات الصادمة التي بدأت تتشكل وتتراكم كشكل من مظاهر ازمة حقيقية تواجه صناعة السينما المصرية. هذه المعطيات لاترتبط فقط بفكرة الفيلم وجرأته خاصة مشاهد الجنس والعنف والقسوة، والكيفية التي اختار فيها يوسف شاهين ابطاله، وكيفية صناعة السيناريو المكثف في بنائه الاسلوبي والصوري والذي نفذّه السيناريست ناصر عبد الرحمن، بقدر ما يرتبط بطبيعة الوظيفة التي يمكن ان تمارسها السينما وسط عاصفة من الافلام الهابطة التي قدمت نماذج وحيوات عائمة هروبية وساخرة وفنطازية احيانا داخل الحياة المصرية. اشتغل الفيلم على ثيمة اجتماعية تعيشها الطبقات المسحوقة والمتوسطة في قاع الحياة المصرية، ارتبطت باستغلال البعض من المسؤولين ومنهم رجال الامن دورهم في التجاوز على الاخرين والنيل منهم اخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، وهذه الثيمة تتصاعد وتقترن مع الفوضى الاجتماعية التي تواجهها هذه الطبقات وسط غلاء الاسعار وضغوط الحياة الاجتماعية والسياسية وازمات الصراعات العميقة الثقافية والامنية والدينية التي تتفاعل بشراهة داخل الشارع المصري ومؤسساته، حتى تبدو وكأنها فعلا تشبه الفوضى.. ان ابسط ما يثيره الفيلم هي القسوة المباشرة في صناعة المشهد، والتحريض عليه واقعيا وليس رمزيا، اذ ان الشارع المصري يمور بعشرات الحوادث العابرة في اقسام البوليس وسجونها وفي الزوايا الخلفية، مثلما ان الصحف المصرية تنشر يوميا في صفحات الحوادث عشرات الجرائم الاجتماعية كالاغتصاب والقتل والسرقة وحوادث المرور وسقوط العمارات على ساكنيها، لكن ان تدخل هذه الموضوعات في البنية البصرية لتكون صورا او افكارا يتم عرضها في السينما، فهذا يفترض التوافر على اشتغالات عميقة في تقنيات الوعي البصري والرؤية الواضحة، مثلما ترتبط بوجود ضغط نفسي وسياسي وثقافي يدفع باتجاه(التنفيس) عن اختناقات عن هذا الضغط في الحياة المصرية وتداعياتها، واستغلال الصورة لتسليط الضوء على الكثير من الجرائم الاجتماعية والاخلاقية ومنها جرائم الشرف، عبر تقديم امين الشرطة حاتم الذي اداه بامتياز الفنان خالد صالح، كنموذج للفساد المستشري داخل المؤسسة الامنية، مثلما يضع(النص) السينمائي امام وظيفة هي اقرب للتحريض، خاصة المشهد الاخير للفيلم حينما يقتحم الناس قسم البوليس للانتقام من امين الشرطة وكأنهم ينتقمون رمزيا من السلطة وقسوتها ونموذجها. ان افلام يوسف شاهين الاخيرة التي اعتمد فيها مفهوم الرؤيا الشخصية العميقة ازاء مواقف سياسية ونفسية وجنسية، مثلت تحولا مهما في تجربته الواقعية التي ابتدأها في فيلم ابن النيل وبابا امين والافلام الاخرى(صراع في الميناء، باب الحديد، الارض، جميلة) وافلامه الرمزية (الاختيار، العصفور، الاخر، المصير) ولعل فيلم(هي فوضى) الذي شاركه في اخراجه تلميذه النجيب خالد يوسف لايضيف لهذه التجربة اشياء جديدة، قدر ما يعكس بعدا سياسيا تعويضيا هو جزء من اشكالية التعاطي مع ثقافة الازمة والتنفيس عنها. فامكنة التصوير محدودة، ونموذج البطل مكرر، ومشاهد المومسات وهوس البطل(حاتم) بها كنموذج للبطل الفحولي ذي المزاج السادي، لكن يبقى لهذا الفيلم تميزه عن افلام الموجة العائمة تحت يافطة(افلام الشباب). اذ يضع المشكلة الاجتماعية والاقتصادية في صلب معالجته السينمائية، تلك التي تلامس هاجس الشارع وقلقه وتشوهاته النفسية والاخلاقية والجنسية. تظل افلام يوسف شاهين رغم كل ما يقال عنها، عرضة للمشاهدة والجدل، فهي تحمل اغواء استثنائيا، كما هي تكشف عن نكهة وعيه السياسي المتمرد وجرأته في قراءة الكثير من ملفات الشخصية الاجتماعية(المصرية او العربية) المضطربة القلقة الخارجة عن السياق، فضلا عن طبيعة خاصية تقنياته المتميزة التي تؤكد لنا اهمية البناء الفكري للنص السينمائي، والبعد الفني التصويري والجمالي والتقني في الصناعة السينمائية، مثلما هي روحه التعليمية الكبيرة التي تتجسد في مسؤولياته في دعم تجربة تلميذه المخرج خالد يوسف الذي ارتبط اسمه باكثر الافلام جرأة في السنوات الاخيرة في السينما المصرية ومنها افلامه(زواج بقرار جمهوري، ويجا، خيانة مشروعة، حين ميسرة).
ثمة فوضى أخرى في فيلم(هي فوضى)
نشر في: 13 نوفمبر, 2009: 04:04 م