من حين إلى آخر، نفرح لأننا نسمع بموقف أو تصريح لمثقف غربي في ما يخص قضية عامة، حقوق الإنسان مثلاً، الديموقراطية، الدفاع عن الحريات. أن يكون المثقف منحازاً إلى جانب المهمشين على الأقل في السلوك هو أمر قديم قدم الأدب والفنون. فبالتالي ليس المطلوب من الأدب والفن بالضرورة أن يجدا مكاناً للمهمشين فيهما، لأن تلك ليست مهمتها الأساسية. جملة الفرنسي ستاندال ما تزال ماثلة أمامنا، "السياسة في رواية هي مثل إطلاق طلقة في حفل كونسيرت"، صاحب الأحمر والأسود ودير بارما، عرف ذلك، رغم ذلك لم تغب السياسة عن عمليه المذكورين. في الأدب والفنون، تتخذ السياسة أشكالاً أخرى، تتنحى إلى خلفية المشهد، تدير الصراع من خلف الكواليس، لا تطل برأسها بشكل واضح للعيان. هذا ما جعل العديد من الكتّاب يلجأون لكتابة العمود، أو للإدلاء بالتصريحات لكي يعبروا عن وجهات نظرهم في القضايا العامة بصورة مباشرة. لكن أغلبية التصريحات هذه للأسف تأتي محسوبة بحسبة عطار. أغلبها تأتي توافقاً مع الجمهور، على طريقة المطربين والمطربات العرب عندما يبررون فنهم الهابط "الجمهور عاوز كده"، أسماء كبيرة ولامعة في أوروبا تحسب بدقة قبل أدلائها بموقف، هل سيؤثر ذلك على مبيعات كتبهم واسطوانتهم؟ في التحضير لحرب بوش على صدام في بدايات عام 2003، وقف أغلب المثقفين والمثقفين في أوروبا ضد الحرب تلك، بعضهم وقف درعاً بشرياً بالدفاع عن صدام، أتذكر مغنياً ألمانياً، كان قد دخل في وادي النسيان، اسطواناته لم تعد تباع، أما على الصعيد الشحصي، فكان مديوناً بمئات آلاف اليورو، بسبب تناوله الكوكائين، حتى أنه دخل السجن بسبب حيازته كميات كبيرة منه، المغني هذا بالذات وجد في حرب بوش فرصة له، لكي يتحول إلى داعية للسلام، ذهب إلى بغداد، غنى في قاعة الخلد تحت صورة صدام، وعاد يدافع عن "الناس في العراق"، فجأة احتلت مبيعات اسطوانته قائمة البستسيلير، الغريب هو أن كل المثقفين والفنانين الذين وقفوا ضد حرب بوش، راحوا ينادون بضرورة الحرب على القذافي ومبارك والأسد، وكأن الموقف من الحرب ورفضها ليس واحداً، أو كأن صدام ليس من نفس فصيلة القتلة هؤلاء. لماذا؟ لأن مزاج الشارع تغير باتجاه الحرب! ونحن؟ نحن نفرح لكل تضامن ولا نفكر بالسوق الذي يتحكم بالمواقف، وأن هؤلاء مستعدون للتخلي عنا، إذا شكلنا لهم خسارة في البيع. المثقف يقول ما لا يفعله، وموقوفه محسوب. وخير مثال للمثقف "الاستهلاكي" هذا، هو صاحب النوبل غونتر غراس. كل تصريح له، له علاقة بالمبيعات. فلأن الموقف الشعبي في ألمانيا اليوم ضد قضية التجسس التي تقوم بها وكالة الأمن القومي الأميركية أن أس أي، شن صاحب "تقشير البصل"، هجوماً حاداً على رئيسة الحكومة الألمانية ميركيل، لأنها "ليست شجاعة في التعامل مع أميركا بهذا الخصوص". مع العمل أن غراس نفسه عضو في الحزب الاشتراكي الديموقراطي (أس بي دي)، والشجاعة هي أن يطلب من حزبه أن يتحلى بالشجاعة أولاً في التعامل مع قضية التجسس، لأنها بدأت في عهد غيرهاد شرودير، الاشتراكي الديموقراطي رفيق غونتر غراس وصديقه، وعندما كانت ميركيل ما تزال رئيسة حزب معارض!!! غراس يهرب إلى الأمام بهجومه على ميركيل. لأن وثائق سنودن تقول لنا، أن هناك اتفاقاً عُقد بين المخابرات الألمانية ووكالة التجسس القومي الأميركية بعمل وموافقة وزير الدولة لشؤون الأمن السابق شتاينماير (أس بي دي!)، والتجسس بدأ على ميركيل عندما كانت ما تزال سياسية معارضة! والأدهى من ذلك لم ينطق غراس بكلمة واحدة حتى الآن ضد صمت حزبه الآن، لأنه دخل في تحالف مع ميركيل لتشكيل حكومة مشتركة! غراس يذكرني بصدام الذي أراد تحرير القدس عن طريق عبادان والأسد الذي قال أولاً تحرير الجولان ثم القدس. قضية التجسس ضالع فيها حزبه الاشتراكي الديموقراطي أيضاً. وعلى غراس لكي يكون صادقاً أن يبدأ من هناك. لكن غراس يحتاج إلى بيع كتبه، وكل كتاب جديد له يُباع أوتوماتيكيا على أعضاء الحزب الديموقراطي. وهل تعرفون كم عدد أعضاء الحزب؟ قرابة نصف مليون؟ ونحن؟ نحن الطرشان في الزفة الذي نفرح ونروج ولا نريد أن نعرف بما يدور!
نحن الطرشان في الزفّة
[post-views]
نشر في: 3 ديسمبر, 2013: 09:01 م