كان هو منفياً من مصر مع مئات غيره من مواطنيه، وكنت انا منفياً من العراق مع عشرات الآلاف غيري من مواطنيَّ .. في دمشق الشام التقينا في سنوات الثمانينات قبل ان تتحسن الاوضاع السياسية في بلاده ليركب أول طائرة الى القاهرة من دون أن يتردد خوفاً أو يلتفت ليقول وداعاً.
عرفته عن قرب في تلك الحقبة، فقد عملت معه لبعض الوقت في صحيفة كان هو رئيس تحريرها، أسماها "الوطن" .. دخلت الى شقته القريبة من ساحة "السبع بحرات" وسهرت معه واكلت وشربت مرات عدة.
من تلك المعرفة استطيع أن أحدس كيف مات منذ يومين ذلك الصديق الكبير (صديق كل المنفيين العرب الى بيروت ودمشق في تلك السنوات). لابد ان (عزرائيل) جاءه مرات عدة في الاسابيع الاخيرة ، ولابد انه ترجّاه بحرارة أن يؤجل لحين انجاز العمل الذي جاء من اجله .. لابد انه اقنعه، فحجته قوية دائماً من فرط بساطتها... ومنذ يومين فقط لم يعترض طريق (عزرائيل) ولم يتوسل اليه أن يؤجل، بل استقبله بنفس راضية مطمئنة .. قال له: الان يمكنك ان تؤدي مهمتك وتأخذني معك، فقد انجزت مهمتي، ولم يعد لدي ما اقول.
انه احمد فؤاد نجم .. شاعر مصر العظيم وابنها النجيب .. اتخيله في ايامه الاخيرة مرابطاً في سريره بجلابيته الفلاحية التي تمسّك بها دائما كما بمصر وبغلابة مصر .. كان يتابع اخبار التلفزيون بشغف طفولي.. اتوقع انه كان مهتماً بعمل لجنة الخمسين المكلفة بإعداد مسودة الدستور المصري الجديد أكثر من اي شيء آخر.. حتى اذا قالت المذيعة أو المذيع ان المسودة قد أنجزت وان رئيس اللجنة عمرو موسى سلمها رسمياً الى الرئيس المؤقت عدلي منصور، التفت احمد فؤاد نجم الى (عزرائيل) الواقف عند رأسه، وقال: "دلوقتي ممكن تتفضل حضرتك"، فهو عاش عمره كله وتحمّل مصاعب جمة في حياته من أجل لحظة كهذه، يكتب فيها المصريون دستوراً مدنياً.
تعجبت وانا اقابله للمرة الاولى كيف لجسمه النحيل ان يتحمل كل طاقة الحب التي حملها لمصر واهلها وللناس أجمعين .. لا اظن ان احداً احب مصر اكثر منه ولا ان أحدا أحب البشر أكثر منه .. كان مجنونا بهذا الحب .. كان طفلاً حقيقياً، وصعلوكاً حقيقياً، وفلاحاً حقيقياً، وعاملاً حقيقياً .. انسانا حقيقياً من طراز فريد... كان هائماً بحب "بهية" أم الطرحة والجلابية ، وأبى ان يذهب الى الابدية الا بعدما اطمأن الى انها اصبحت في أيد أمينة مع الدستور الجديد.
احمد فؤاد نجم لم يمت، ولن يموت .. سيظل حياً ما دامت مصر موجودة .. انه يغيب فقط.
إنه يغيب فقط
[post-views]
نشر في: 4 ديسمبر, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 2
الناصري
متى نكتب دستورنا بأيدينا نحن العراقيين بدون تدخل المحتلين إيران وأمريكا ودستورا خاليا من نتانة الطائفيه دستور مدني مدني وأتحدى نص الساسه في الساحه إذا يعرفون معنى دستور مدني !!!!!!
محمود هادي الجواري
جميل جدا أن يتذكر الانسان اخيه الانسان وخاصة في السنوات المؤلمة والقاسية وخاصة عندما يعيش في المهجر او المنفى ..ومع آلام الغربة عن الوطن وفرقة الاهلون والاحباب ولكن يمنح الله المخلصين وحملة القلوب الطيبة تعويضا مجزيا لفك اسورة حصار الاغتراب والوحدة .. ا