في مقدمة كتاب "حوار مع نفسي"، وهي نصوص قصيرة بقلم نيلسون مانديلا، يكتب الرئيس الاميركي باراك أوباما، أن "مانديلا عاش في غابة السياسة، وكان له نصيبه من الضعف الإنساني، وفيه العناد والكبرياء والبساطة والاندفاع، ووراء سلطته وقيادته الأخلاقيتين كان يخفي دائماً سياسياً متكاملاً وقد ارتكزت منجزاته العظيمة على براعته وإتقانه السياسة بمعانيها العريضة الواسعة”.
سحر مانديلا العالم بتواضعه، وبعفوه الدائم وبابتسامته السمحة التي دفعت ملكة بريطانيا ان تخالف البروتوكول فتقرر الوقوف في باب القصر لاستقبال الرجل الذي قرر ذات يوم وفي هدوء ان ينهي سلطة الرجل الأبيض على القارة السمراء، وقبل ان يسحر مانديلا رؤساء وملوك العالم كان قد سحر سجانيه البيض الذين ظلوا خلال سنوات سجنه الطويلة يهربون له القهوة والشاي والطعام الخاص بهم.
من منا يتذكر اليوم اسم الرجل الذي قرر ان يودع مانديلا السجن، لقد ظل لوحده الحاضر الوحيد في السلطة وخارجها، سجيناً وحراً، يملأ المدن الكبرى بسلوكه العفوي، الملايين التي ترنو بأنظارها واسماعها الى بيت الرجل العجوز تشعر بان مانديلا انتقم لها بصفحه وطيبته، وهذه الملايين اليوم لا تطيق ان ترى الرجل الأسطورة يهزمه المرض وترفض ان تصدق ان الموت يمكن ان يتجرأ ويقترب من انسان قال في لحظة حرجة من تاريخ بلاده: "نحن لا ننسى الظلم.. لكننا نريد ان نعلم العالم التسامح ".
يبدو الحديث عن مانديلا اليوم أشبه بالحديث عن حلم عاشه رجل في زنزانة ضيقة وحين أطلق سراحه عمل جاهدا على المحافظة على بلد متماسك بكل ألوانه، كان الأمر في البداية أشبه بالمستحيل، فالكل يشحذ سكاكينه، والكل يتهيأ لحرب الانتقام، وكان أمام العجوز الذي خرج منهكا من المعتقل خياران، الأول أن يبدأ حرب الانتقام ضد البيض الذين عذبوه لأكثر من ربع قرن، وحكموا مواطنيه الأفارقة بقوانين تساويهم بالحيوانات، والخيار الثاني ان يحافظ على امن وسلامة البلاد وروحها، فاختار الطريق الثاني وهو ألاّ يلغي مواطنة البيض الذين استقروا في هذا البلد منذ أكثر من ثلاثمئة عام إلى جانب السكان الأصليين ليفاجئ العالم بسياسة اليد الممدودة، وعقاب المخطئين بمحاكمات الاعتراف العلنية لتطهير النفس بديلا للانتقام والقتل، وحين اكمل ولايته الاولى في الحكم عام 1999 قرر ان لايترشح لدوره ثانية وذهب يتقاعد، يطوف البلاد ليُطمئن مواطنيه البيض قائلاً "اذا كان الماضي البغيض لكم، فليكن المستقبل الهانئ لكم ولنا، تعالوا نعمل معا، سوداً وبيضاً، من أجل أرض واحدة وإنسان واحد".
يرحل مانديلا مطمئناً لأنه ترك بلاده في تصالح مع المستقبل. لم يطلق النار على المتظاهرين. لم يشتم معارضيه او يخونهم، لم يطلب من الناس ان تهتف بحياته، لم يوزع ثروات بلاده بين مقربيه.. لم يتستر على فاسد.. ولم يضطهد اصحاب الكفاءات.
لعل التجربة السياسية لزعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا تستحق من كل الساسة في العالم وأولهم حديثو التجربة في العراق أن يطالعوها، فالرجل الذي أمضى اكثر من ربع قرن في زنزانة انفرادية، توقع المقربون منه أن خروجه من السجن يعني أن لحظة الثأر قد حانت، لكنه لم يحقق لهم مبتغاهم ودعا الجميع إلى نسيان الماضي مؤكدا أن “الإنسان الحق هو ذلك الذي لا يكرر خطأ الظلم الذي ناضل كي يرفعه”.
تخبرنا كتب التاريخ أن الضحية غالباً هي التي تنتصر، وأن السلم هو الذي ينتصر على الحرب. انتصر تشرشل في الحرب العالمية الأولى والثانية، لكنه حمل معه إلى الموت الهزيمة التي أنزلها به هندي صغير الحجم اسمه غاندي.
في رسالة وجهها الى شباب الثورة في مصر وتونس يكتب مانديلا:، " إن هاجسه الأول في زنزانته الضيقة كان البحث عن صيغة حكم خالية من الظلم والقهر والاستبداد. ولما خرج من سجنه الصغير إلى السجن الكبير، أدرك أن إقامة العدل بين الناس أصعب بكثير من هدم الظلم، فالهدم، فعل سلبي بينما البناء هو فعل إيجابي. ولايجوز ان يهدر الثوار وقتهم في شتم كل مَنْ كانت له صلة بالأنظمة السابقة."
ومثلما اختصر غاندي أزمة العالم برفع شعار "لا للعنف"، كذلك قدم مانديلا نصائحه إلى كل شعوب الدنيا: " إذا كان الحاضر سينتهي بمحاكمة الماضي، فمن المؤكد أننا سنضيّع المستقبل."
مانديلا من العراق
[post-views]
نشر في: 6 ديسمبر, 2013: 09:01 م