التجوال في الساحات الكبرى و شارع غراند فيا يشعر المرء بمتعة التمدن وهو يتملى بصمات العصور التي مرت على مدريد ، يفخر أهل مدريد بعمارة مدينتهم وتنوعها كقٌصر سبيليس ومبنى البريد التاريخي ومتحف البرادو وكاتدرائية المودينا أو المدينة ومتنزه الريتيرو ويتناقض كل هذا مع حداثة معمارية مفرطة تجاور عمارة الباروك والروكوكو والكلاسيكية الجديدة ، ( بلازا مايور) أكبر ميادين مدريد المحاط بـ 136 مبنى تاريخي ومجموعة من الكنائس بعمارة باروكية من القرن السابع عشر يمثل النموذح السلطوي والديني الذي كان يتيح للحاكم ورجل الدين معا أن يفرضا هيمنة مطلقة على الحشود في الاحتفالات والمناسبات الدينية ،الميدان مضاء بألف لون تجعل مقاهيه مهرجانا للحب والحلم و يفيض سحر الموسيقى متناغما مع لعب المهرجين والرقص وكأن الميدان العتيد يريد محو ما علق في ذاكرة الناس عن تاريخه الدموي فهنا تحت الشرفات وأنظار الحكام ورجال الدين كانت تجرى عمليات الإعدام في القرن 17 ثم تحول الميدان إلى حلبة لمصارعة الثيران ثم ساحة للاحتفالات الرسمية وها هو اليوم يحتفي كل لحظة بالحياة والعشاق والفن وترتجف أشجاره على إيقاع أقدام راقصات الفلامنغو اللائي يتوشحن الشالات الكاتالونية المطرزة ويزيّنَّ رؤوسهن بأمشاط لامعة كأميرات الأحلام.
يتواصل الناس هنا بالفن والحب والمرح، بينما تنكرك مدن أوروبية مثل فرانكفورت وزيوريخ وباريس و تشعرك بأنك هباءة ضائعة وانك وحيد ومهجور وزائد عن حسابات المدينة وعجز أهلها عن التواصل بينما تتفتح إنسانيتك في حميمية مدريد وسيتضاعف الإحساس بالألفة والدفء في جزيرة غراند كناريا أكبر جزر الكناري التي سأقصدها بعد مدريد.
صباح اليوم التالي كان علي أن أتيه في شوارع مظللة بأشجار باسقة للوصول إلى متحف البرادو معبد الفنون الكلاسيكية فأغادره عصرا لأحظى بأجمل أمسية لدى زيارتي لمتحف الملكة صوفيا للفن الحديث حيث يحتشد مئات من عشاق الفن لمشاهدة أعمال بيكاسو وخوان ميرو و سلفادور دالي وتابيس وسواهم ولم أشأ دخول معرض دالي قبل أن أحيي الغورنيكا في قاعتها الخاصة ،كانت الغورنيكا بلونها الرمادي والأبيض والأسود وشموخها تعطي انطباعا بانتصارها على النازية التي حرمت أعمال بيكاسو لتمثيلها الأعراق الدنيا من البشر !
تساءلت أمامها : كم من الغورنيكات لدينا ؟ انهمرت دموعي أمام وجوه نسائها الثلاثة التي تحتل مركز اللوحة : المرأة التي تحمل المصباح والمرأة الصارخة والثالثة الهاربة ولما رأت الغورنيكا دموعي المتساقطة على الرخام اللامع، رأيتها تقترب مني متخطية حاجز الحبل الأخضر ويلتمع شعاع مصباحها المحطم على وجهي لتقول لي : الفن ينتصر للإنسان والجمال والسلام على مر الزمان .
لبثت الغورنيكا سنوات طويلة في متحف الفن الحديث بنيويورك بناء على رغبة بيكاسو وبعد رحيل فرانكو احتفلت إسبانيا باستعادتها لتقف طوابير النساء والرجال من اجل إلقاء نظرة على اللوحة التي تفضح بشاعة الحرب وهلع الإنسان ، كانت العجائز اللائي فقدن أبناءهن ورجالهن وعشاقهن في الحرب الأهلية يقفن أمامها وتتماهى وجوههن المغضنة مع ألوان اللوحة الرمادية ،أما الشباب فقد كانوا يمرون أمام الغورنيكا بنوع من اللامبالاة.
بعد زيارتي معرض مئوية دالي الذي سأتحدث عنه لاحقا - تلمست التناقض بين رؤية بيكاسو التي تهجو الفاشية و بين تهافت بعض أعمال دالي كالإعلانات التي مثلها للتلفزة ترويجا لجوارب نسائية وعلكة وشيكولاتة ، أغادره لمشاهدة فيلم "الكلب الأندلسي" الذي تشارك في صنعه دالي ولويس بونويل لهجاء الفن الطليعي والبورجوازية وصديقهما لوركا.
يتبع
رحلات إلى جزر الأطلسي.. القسم الثاني: مدريد والغورنيكا ومعرض دالي
[post-views]
نشر في: 7 ديسمبر, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...