ظل المترجمون العرب حائرين بين جان بول سارتر وغريمه البير كامو، وأمضى الراحل عبد الرحمن بدوي نصف عمره يحل ألغاز كتاب سارتر الشهير "الوجود والعدم" من اجل ان يقدمه للقارئ العربي.. فيما انشغل مترجمون اخرون بترجمة كل ما كان يكتبه او يقوله فيلسوف الوجودية.. صف طويل من المثقفين تأثروا بسارتر، فيما قلة قليلة كانت تقترب من اعمال المتمرد البير كامو، واتذكر انني عندما بحثت عن رواية "الطاعون" لكامو وجدت نسخة طبعتها احدى دور النشر المتواضعة، فيما كان الغريم سارتر يحظى بعناية دور نشر كبرى في مصر او لبنان.. قبل ايام وقعت تحت يدي طبعة جديدة وأنيقة من رواية "الطاعون"، وقد صدرت بمناسبة الاحتفال بمئوية البير كامو التي صادفت قبل اشهر.. كثيرة هي المرات التي قرات فيها هذه الرواية، وفي كل مرة اتوقف عند هذه الجملة المثيرة التي يقولها بطل الرواية الطبيب ريوكس: "حين يعم الوباء تزحف المقابر إلى قلب المدينة".. في قراءاتي المبكرة للرواية كنت اتوقف عند المعنى الذي أراد منا كامو أن ندركه وهو العمل على ان لايصبح الطاعون قانونا يتحكم في مصائر الناس، فنحن ازاء طبيب ظل حتى اللحظة الأخيرة، ورغم كل الشواهد يعتقد أن الوباء بعيد عن مدينته، ونراه يتساءل دوما هل يعقل ان يغزو الطاعون المدينة؟ لكنه في النهاية حين يرى الناس تتساقط في الشوارع، يدرك ان الوباء قد حل.
وانا أعيد قراءة "الطاعون" بنسختها الأنيقة وجدت نفسي إزاء حكاية أخرى للوباء الذي يفتك بنا جميعا، واعني به وباء الانتهازية والمصلحة الشخصية.. حين ينتشر الطاعون في مدينة كامو نجد الساسة والمواطنين يصبحون أسرى داخل المدينة، فيما يبدل الوباء معالم العلاقات بينهم، فنحن هنا لسنا إزاء مرض قاتل فقط، وانما بمواجهة التغيير الذي يحصل في علاقات الناس، فالمسؤول يبيع للناس طمأنينة زائفة مقابل ان يحصل على مزيد من الثروات مستغلا خوفهم وقلقهم، ورجل دين يدعوهم إلى طريق الهداية، فالطاعون غضب من الخالق على عبادة الذين يعصون "أولي الأمر"، فيما البسطاء يدفعهم الخوف إلى التخلي عن مصالحهم الشخصية لمساعدة الآخرين.
في واحدة من أجمل حواراته يحاول كامو ان يعلمنا معنى ان يتربى الظلم والطغيان والوباء في أحضاننا "ينشأ الشر في العالم عن الجهل، وربما تسبب النوايا الحسنة من الضرر بقدر ما تسبب النوايا إذا افتقرت إلى الفهم، ولعل اكثر الرذائل المستعصية على التقويم هي من قبيل جهل الذي يتوهم بأنه يعرف كل شيء، ومن ثم يدعي لنفسه الحق في قتل الآخرين". وردا على سارتر الذي كتب ينتقد الرواية من أنها تؤسس لأخلاق تسقط التاريخ ولاتجاه نحو العزلة السياسية، يؤكد كامو في رسالة الى صديقه اللدود "لا أرى مناقشة جدلية للرد عليك سوى عشق جارف للعدل وهو ما يبدو لي خارجا عن المنطق.. انك ببساطة ترى اليأس بمنظارين، أما أنا فأرى اليأس وقد توزع على الجميع.. ولا دواء للطاعون إلا بإعلاء شأن العدل ومحاربة الجور الأبدي، وان نخلق السعادة بغية الاحتجاج على عالم تسوده التعاسة.. في رفضي لليأس ولذلك العالم المعذب، إنما أطالب البشر بإعادة اكتشاف تضامنهم ليشنوا حربا على قدرهم البغيض".
يعلمنا كامو أن الأمم لا يصيبها الوباء إلا عندما يستبيح الظلم الناس.. في مدن الطاعون نعيش مع ساسة يحولون الحق إلى ضلالة والحياة إلى جحيم يكتوي بنارها معظم العراقيين، في مدن الطاعون تغيب العدالة وتصبح الديمقراطية مجرد واجهة لسرقة احلام الناس ومستقبلهم، لتتحول إلى شعارات وخطب يلقيها علينا صباح كل يوم مجموعة من الانتهازيين واللصوص والمزورين، ديمقراطية شعارها التفاهة والسفاهة والبلادة والشراهة والتخلف والانتهازية.
في نهاية الرواية يعلمنا بطلها "ريوكس" أن النضال ضد الطاعون مضن مثل صعود الجبل: "في ذلك الوقت طاف عدد من الفلاسفة السذج بلدتنا معلنين انه ما من شيء يمكن عمله حيال الطاعون ولابد ان نذعن له.. فيما تعلمنا الحياة ان هناك وسيلة واحدة للخلاص، فقط هي محاربة الوباء".
واعتقد وأنتم معي أن الطاعون الذي يعاني منه العراق هو خفافيش الطائفية، الذين افسدوا وسرقوا ونهبوا وقتلوا على الهوية، لا فرق بين سياسي طائفي سواء أكان شيعياً أم سُنّياً فالاثنان وباء قاتل مهمته تخريب الوطن وسرقة أحلام الناس.
الوباء.. شيعياً أم سُنّياَ
[post-views]
نشر في: 9 ديسمبر, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 1
l مردان صفوت
عندما افرد كولن ولسىن في اللامنتمي افكار البير كامو في الطاعون الذي يتحدث به عن الطاعونالذي ضرب احدى المدن الجزائرية على مااذكر كما افرد جزأ لايستاخن به لباربوس والجحيم وسارتر ووجوديته في اناوالتفكير وكافكا والمسخ واخيرا وليس اخراهكذا تكلم زرادشت لنيتشه