(2 ـ 7 )
عشّي القديم احترق، وذلك ما جعلها تتألم وتبكي. لكنها ولمفاجأتها وبعد وفاة جدتي (من جهة أبي) فرجة، عثرت في صندوق صغير يعود لجدتي، على بعض البطاقات البريدية القديمة، مربوطة مع بعض بشريط بنفسجي اللون، كأن أحداً اختارها بعناية من مجموعة بقية البطاقات، وقرر أن يحتفظ بها دون غيرها. من المستحيل أن تكون جدتي فعلت ذلك، لماذا وهي لا تملك دافعاً أو سبباً يجعلها تختار البطاقات هذه دون غيرها؟ لابد وأن أحداً آخر فعل ذلك، لكنها لا تتذكر مَن؟ هي نفسها، لا تتذكر أنها فعلت ذلك، أما أبي فأكد لها هو الآخر، أنه لم يعرف حتى بوجود هذه البطاقات، لابد أن يكون نجم، قال لها. لكن ذلك ليس مهماً، قالت لي، فهي لم تصدق أنها عثرت على البطاقات البريدية تلك، ففيها ذكرياتها الجميلة أيضاً. حزمة صغيرة من ذكريات، قالت لي، وهي تسلمها لي في زيارتي الأولى بعد 9 نيسان/أبريل 2003، بعد 23 عاماً من منفاي الطويل، اثنتي عشرة بطاقة بريدية، كلها بالأسود والأبيض تعرض بعضاً من معالم بغداد في سنوات مختلفة، بعضها صور تعود إلى بداية قرن مضى، صحيح أن لونها بهت، لكنها رُبطت بعناية بشريط خاص، الشريط ظل محافظاً على لونه البنفسجي، كل شيء معتنى به، كأن أحداً ربطها يوم أمس، لا أتذكر أنني فعلت ذلك، وإذا كنت بالفعل أنا الذي ربطها بهذا الشكل، فهذا يعني أنني كنت منظماً على الطريقة الألمانية أو الإنكليزية منذ ذلك الوقت، حتى ترتيبي لها جاء على أساس تاريخها، هذا ما تأكد لي عند فتحي للشريط.
ربما مرت عليّ البطاقة البريدية التي تقدمت بقية البطاقات "المعايدات"، عند تفحصي لها، في الوهلة الأولى مرور الكرام، لأن ما حوته لم يلفت نظري أو نظر أحد الآن، لماذا لا؟ فهي بطاقة بريدية بالأسود والأبيض، اعتمدت على صورة لمنارة في بغداد، منارة عباسية قديمة، لم أعرف لحظتها إذا كانت المنارة ما تزال كما في الصورة في بغداد، أو أنها هُدمت وأعيد بناؤها من جديد، كما فعلت السلطات مع كل المعالم الأثرية الأخرى في البلاد: إعادة بنائها من جديد، ووضع اسم الديكتاتور على كل طابوقة أو حجر منها، وإذا حدث ذلك لشارع الموكب ولبوابة عشتار المفترضة في بابل (لأن الحقيقة موجودة في متحف بيرغامون في برلين)، فلماذا لم يحدث ذلك للمنارة القديمة هذه؟ المنارة النادرة التي ارتفعت برشاقة جميلة رغم تهدم قاعدتها وطرفها العلوي، حتى بدت في وقفتها مثل نخلة باسقة وسط بيوت أحاطتها، بعضها مبني من الطابوق، وبعضها الآخر، خاصة الذي إلى يمينها بُني من القصب، مسقوف مثل كوخ في الجنوب؟ وفقط في المرة الثانية عندما تطلعت بخلفية الصورة قرأت، أنها منارة سوق الغزل (جامع الخلفاء)، وهي أقدم منارة بقيت في بغداد، لكن أيضاً ليس من بغداد الأولى، لأن المنارة الأولى لجامع الخلفاء الذي بناه العباسيون كانت قد دُمرت كما أعرف عند دخول جيش المغول بغداد. المنارة الظاهرة في الصورة بناها ابن هولاكو، أباقا، في القرن الثالث عشر ميلادي على حطام المنارة التي هدمها شخص هو ليس غير أبيه! تلك هي فرادتها إذن. لأنها وأن أخذت من المنارات التقليدية بعضاً من صفاتها، إلا أنها اختلفت عنها بنحافتها، وهي فرادتها التي لم تلفت نظر المصور الذي ألتقط لها الصورة خلال زيارته للعراق عام 1911 كما تقول البطاقة فحسب، بل لفتت نظري أنا أيضاً وجعلتني أحتفظ بهاً، ففي العمارة لم تكن عندما منارة شبيهة بها أبداً، كانت منارة غريبة بالنسبة لي ، قادمة من كوكب بعيد، من بغداد، والأكثر دهشة، هو أنني اكتشفت وأنا أبحث عن مصدر الصورة أو عن المصور الذي صورها، وللمفاجأة، بأنه مصور ألماني زار بغداد عام 1911