يُعدّ كولن ولسن من الأسماء المؤثرة على تغيير نمط التفكير البشري سواء في القارة الأوروبية ، أو في سائر أنحاء العالم . &n
يُعدّ كولن ولسن من الأسماء المؤثرة على تغيير نمط التفكير البشري سواء في القارة الأوروبية ، أو في سائر أنحاء العالم . لقد أسس هذا الرجل العبقري لبنة تحليلية بالغة الحساسية بالنسبة للنزعات الإنسانية ، ولعل أكثر ما اشتغل عليه ولسون هو مسألة اللاانتماء التي تتسبب بعض الظروف في تعزيزها لدى الأفراد ، وكذلك لدى الشعوب .
استطاعت أفكار ولسون أن تتفاعل في عمق الأوساط الثقافية ، وكذلك أوساط الشباب من مختلف الأعمار ، حتى غدا البعض يعلّق صورة ولسن على صدره ، وكذلك يفتخر بأنه يحمل كتاباً من كتب ولسون ، حيث بات يتزعم منهجاً ونمطاً خاصاً في طريقة الحياة .
1931 - 2013
عندما قرر ولسون عزلته الطويلة ، اعتقد البعض بأنه مات بصمت دون أن يسمع به أحد ، حيث اختفت أخباره من وسائل الإعلام بسبب العزلة الصارمة التي فرضها على نفسه .
بيد أن بداية شهر ديسمبر 2013 ، أعادت حضور هذا الفيلسوف الذي ولد سنة 1931 إلى بعض وسائل الإعلام التي بدأت تتحدث عن وفات هذا الفيلسوف الذي يعد علامة مؤثرة في الفكر الفلسفي ، وقد تلازم موته مع موت نيلسون مانديلا في ذات الشهر حيث يعد الشخصان من أهم الشخصيات التي لبثت حية ، واستطاعت أن تحتل تلك المرتبة المتقدمة من المجد والشهرة والتأثير الجماهيري .
لقد أحدث كولن زلزالاً بأفكاره الجديدة حول فكرة وجدلية اللاانتماء ، واستطاع أن يسيطر على أفكار وشخصيات أجيال برمتها ، ولم يكن أقل شأنا ، ولا سطوة ، ولا قوة من جان بول سارتر .
اشتهر ولسون بالكثير من كتبه التي أحدثت جدلاً في أوروبا وسائر أنحاء العالم ، وامتدت شهرة ولسون إلى بلادنا حيث استقبله المثقفون العرب ، وكذلك الكرد بالكثير من الترحيب ، وبات ولسون مسيطراً بشكل خاص على طلبة الجامعات حيث بات كتابه اللامنتمي الذي قام بترجمته المترجم العراقي زكي حسن ، وروجت له دار الآداب اللبنانية من الكتب الأساسية التي غدا طلبة المدارس يتداولونه ، ويتبارون في إثارة الجدل حول مضمونه ، وبذلك تزعم كولن ولسون بأنه غدا صاحب أكثر الكتب مبيعاً ، وأكثرها إثارة للجدل .
الأمر الآخر أن ولسون تناول أهم الأسماء الأدبية وما تركت من نتاجات وفق مفهوم اللاانتماء الذي عمل في مجاله ، فبات يتناول هذه الإبداعات منطلقاً من هذه الأرضية مما أكسبه شعبية أكثر .
عندما تحدث ولسون عن إبداعات المركيز دي ساد مكتشف النزعة السادية بيّن أن معظم المبدعين الذين قرأوا ساد يعانون من ثنائية ساد الساذجة عن الخير والشر ولكن بشكل أخف ، فالطقوس التي تؤديها المرأة العانس في " نور في آب " لفوكنر تسير على قاعدة ساد , وكذلك الشذوذ الذي نراه في " الملاذ " و"وهم الاغتصاب" و"عود الذرة ", ويحاول جيمس جويس أن يحل مشاكله مع الكاثوليكية بنشوة الضعة في " مدينة الليل " , ويميل غرين أيضا إلى ربط الجنس بالخطيئة , ويحاول جاهدا أن يقنع القارئ بأن الشيطان موجود لأن العالم مكان مسحور قاس .
يحاول الجميع إنكار الموقف العملي الذي يتوصل إليه تولستوي ودستويفسكي والقائل بأن الشر هو فقط غياب الخير وغياب الحب ، وحسبما يورد كولن ولسون مرة أخرى فإن ليوناردو يعبر عن الموقف العملي في مذكراته قائلا : " إن الشر هو ألم جسدي " أي أن الألم الجسدي هو الشر الوحيد الذي يمكن أن يعرفه البشر .
حين فقد كولن ولسون جميع رفاقه ، فضل أن يبقى منعزلاً يعيش وقائع حياة اللاانتماء الذي أسس له إلى درجة أنه بات يعيش في قطيعة تامة عن العالم ويرفض أي شيء من شأنه أن يشير إلى حضوره ، حتى الأحداث الكبرى التي وقعت رفض أي حديث بشأنها وكان ذلك سبب اعتقاد الكثيرين بأنه مات ، والحقيقة أنه كان يعيش في تلك العزلة التامة ، وهو شكل من أشكال الموت الذي فرضه ولسون على نفسه خلال كل تلك السنوات الطويلة .
وتشاء المصادفة أن يموت كولن ولسون ، صاحب أكثر الأفكار الفلسفية تأثيرا على العالم ، في الشهر الذي مات فيه نيلسون مانديلا - ديسمبر 2013 - صاحب أكثر الأفكار الداعية إلى حرية الإنسان ، بيد أن الثاني لبث متفاعلاً مع الواقع حتى اليوم الأخير من حياته ، في حين أن الكثيرين أيضاً لم يسمعوا بموت كولن ولسون .
لقد لبث كولن ولسون مخلصاً لأفكاره ولذلك لم يخطط أن تنكس الأعلام ، أو يقام حداد ، أو يشارك العالم في وداعه إلى مثواه الأخير كما حدث الأمر بالنسبة لمانديلا ، لأن ذلك كله في واقع الأمر لم يكن يعني لولسون شيئاً ، ولم يكن ليضيف إلى تاريخه شيئاً .لقد عاش ولسون كما كان يريد ، وكذلك مات بالطريقة التي اختارها لنفسه .
تحول موت ولسون إلى فرصة للأجيال الجديدة كي تطلع على أفكاره ، خاصة وأن الواقع العربي بات يفرز الكثير مما تحدث عنه ويلسون ، هكذا عندما يجلس المرء لامنتمياً ، ثم يفقد أي معنى وقيمة لحياته وكذلك لحياة الآخرين ، بل لظاهرة الحياة برمتها ، وذلك هو اللامنتمي السلبي الذي تناول ولسون شخصيته في الكثير من الأعمال الأدبية لكبار المبدعين ، إلى جانب شخصية اللامنتمي الإيجابية التي عاشها ولسون نفسه في مرحلة عزلته.