محمد سعيد الصكار mohammed_saggar@yahoo.fr يستحثني عدد من قرائي الكرام برسائل ومكالمات على مواصلة الكتابة في الشأن الثقافي وما يتخلله من تبسيط لبعض ظواهر الكتابة أو الشؤون التي تدخل في إطار المعلومات الخاصة التي لا تخلو من طرافة أو فائدة،
وكأنني أرمي لهم بحبل ينقذهم، ولو لحين، من زحمة القيل والقال والكلام الفارغ المكرور الذي يأخذ بخناقنا من (طقّة الإبريق إلى حَلّة الهوش)كما يقول المثل العراقي؛ ومعناه (من وضوء الفجر إلى عودة الرعيان عند الغروب)؛ وكأن ما أكتبه تسللٌ مما يحيق بنا من هموم ومشاكل.وتمييع لمواقف نحن مطالبون بالإنتباه إلى ما ترمي إليه، والتوقّي من إساءة الفهم، وخلط الأسود بالأبيض لتضبيب ما نحتاج إليه من صفاء الرؤية ودقّة الرصد وتحديد الموقف، في هذه البيئة السياسية المتلاطمة الأمواج. توقفت عن الكتابة في الشأن السياسي (العراقي خاصة)لجريدة عربية بعد قرابة السنة من المواكبة، لأنني أحسست بمجّانية الكلام وقلة جدواه من ناحية، ولكوني استنفدتُ ما في جعبتي، وخشيت من ملل القراء، كما مللتُ أنا. وقد يُظن أن في اتساع قاموس الكاتب وقدرته على التعامل مع أدواته اللغوية والبلاغية منفذاً للهروب من الإعادة والتكرار المثير للملل، وهو ما قد يصح في حالات معيّنة ولدى بعض الكتّاب، ولكن للملل مسببات لا تقهرها اللغة وفنونها، لأنه ذو علاقة بنوازع النفس ورقة المشاعر ورهافة الحس، ورفض ما هو مناقض لطبيعة الأمور وأبعاد الحقيقة.وقد نكسر، نحن الكتاب، ملل القراء، بتطرية كتاباتنا ببعض (الإحماض)، وهو ما يؤنس من الحديث، لكي تسلك كتاباتنا الجافة طريقها إلى أفهامهم.ولكن ذلك لا يدرأ الملل دائما.ذلك أن للملل قوّة لا تُقهر، ولا تنفع معها المغالطات. وفي أيامنا نجد بعض الكتاب الذين يرهقوننا يومياً بما يهرفون من الكلام الجاهز والمفردات المكرورة مما لا رابط لأفكاره، ولا طائل وراءه، معزّزاً بصورهم الباسمة أو المتأملة كصورة احمد شوقي المعروفة، دون ملل مما يكررونه كل يوم في أكثر من صحيفة وأكثر من موقع. ولست مستغرباً من هذا، فالدائرة المعرفية، والثقافية بوجه عام عند هؤلاء، محدودة من حيث ما تيسر لهم من (علم)محدود،ولكن الموجع في الأمر أن لا يفكّر هؤلاء بمقدار الملل الذي يسببونه للقارىء أو المتابع في وسائل الإعلام التي يستأثرون بالكثير منها. تصوّروا؛ أن إذاعة عربية في پاريس تذيع يومياً، كل ربع ساعة، مقتطفات من أقوال أحد أعلامنا في لبنان؛ كل ربع ساعة تعاد الأقوال نفسها، على مدى خمس سنوات، دون أن يمل المذيع والمبرمج والمشرف السياسي والفني والمموّل، وعلينا، نحن المستمعين أن نتشبث بالدماثة ونصغي. هذا الملل الذي يسببه التكرار والإعادة دون معنى مضاف، يخثّر المشاعر، ويبلّد الذهن ويعطل إمكانية التعامل مع الحقيقة. والذين يغالطوننا بمعارفهم المحدودة ولهاثهم وراء موسوعة غينيس التي (رفعت رؤوسنا)بطبق الحمص والتبولة، بعد أن أحنت رؤوسنا في الوصول إلى حكومة لبنانية وطنية بعد خمسة شهور، مع الحرص على تكرار عبارة (الموعد الحاسم بعد يومين). دع عنك ما أذاقنا المر والسهد في انتظار قانون الإنتخابات، والتوكيد بلا ملل على وعود مكرورة، خُتمت، بحمد الله بما قاله صديقي عبد الحق البغدادي: "من فرط ما حاصرنا الشك نسينا لذّة اليقين" والتساؤل المشروع هنا، هو هل أبقى لنا الملل شيئاً من الأمل؟ الملل عافية، ونحن بحاجة إليه لكي نفسح للعقل أن يتمدد ويتجدد.وليت كل تلك المؤسسات السياسية تفرد في برامجها مجالاً للملل ووسائل التعامل معه، وتحويله إلى قيمة فاعلة، فهو مفتاح للوصول إلى حقائق الأمور من خلال ما يفصح عنه من مواقف الناس والتعبير عن مشاعرهم بعد أن غصّوا بالوعود، وضاقوا بالتعابير الجاهزة. أما كيف يتحصن الناس من الملل، ففي سعة الإطلاع، والتزوّد بكل ما هو متاح من معارف وثقافات واستقراء وجوه المعرفة، واعتبارها منطلقاً لتحويل الملل إلى قيمة فاعلة؛ فرصيد المعلومات العامة والخاصة للكاتب تمنحه حرية التنقل بين حقول المعرفة التي تأتيه بالجميل والبارع والمؤثر، وهي من الكثرة بحيث صارت تملأ الآلاف المؤلفة من الصفحات المقروءة على الإنترنيت، والتي جمعت معلومات بالعربية تفوق التصور والإستقصاء، بحجم نصف سيكارة! يبقى الملل مقياساً لقيمة ما نقرأ ونسمع ونرى.
نـعـمـة الـــمـــلـــل
نشر في: 14 نوفمبر, 2009: 04:19 م