TOP

جريدة المدى > المنتدى العام > حـنـين للاشـــتراكـية

حـنـين للاشـــتراكـية

نشر في: 14 نوفمبر, 2009: 04:20 م

فريدة النقاش قبل ما يزيد علي ربع قرن قدم المخرج السينمائي البولندي تاركوفسكي فيلمه (الحنين) الذي أخرجه بعد أن كان قد هاجر من بلاده قبل ذلك بأعوام محتجا على القيود على الحريات العامة التي كانت المرحلة الستالينية في حياة الاتحاد السوفيتي وأوروبا الاشتراكية عنوانا قاسيا لها.
وكان حنين (تاركوفسكي) شأنه شأن حنين (برتولد بريخت) الشاعر والمسرحي الألماني العظيم الذي طاردته النازية وذهب إلي أمريكا وهناك اختبر أشكال القمع الخفي والمعلن للمبدعين، واليساريين منهم بخاصة في ظل مرحلة المكارثية التي قامت أثناءها المخابرات المركزية الأمريكية والمباحث الفيدرالية بأكبر عملية قمع وملاحقة ضد الكتاب والمفكرين والسينمائيين ما أدى إلى انتحار بعضهم وهجرة الآخر وتحول البعض إلى مخبرين وصمت آخرون إلى الأبد، وتشكل هذه المرحلة واحدة من النقاط السود الكثيرة في ثوب الرأسمالية. عاد (تاركوفسكي) بذاكرته السينمائية إلى العالم الاشتراكي يقوده الحنين، وعاد (بريخت) فعليا يقوده المثل الأعلى إلى بلده ألمانيا الديمقراطية رغم إدراكه لوجود أشكال من الرقابة والحصار ليؤسس مع زوجته الفنانة (جيلينا فايجل) وعدد من أصدقائه فرقة (البرلنر إنسمبل) المسرحية التي طبق على عروضها نظرياته المسرحية في الآراء والإخراج والتي هزت العالم وشكلت نقلة نوعية في تاريخ المسرح العالمي تحت عنوان (المسرح الملحمي)، وعاش بريخت وأبدع في برلين الشرقية رغم كل الصعوبات، ومات قبل انهيار المنظومة الاشتراكية التي حولتها الدعاية الرأسمالية إلى أمثولة في قمع الحريات ومصادرة المبدعين مع طمس كل ما أنجزته التجربة من أعمال عظيمة، وما أنتجته من قيم وأفكار ومثل عليا ونظم رعائية. ولم يمهلنا التاريخ سوى عشرين عاما ليكتشف ملايين البشر أنهم كانوا مخدوعين حين اندفعوا للتظاهر في بلدان المنظومة الاشتراكية منددين بالنظم الديكتاتورية التي سيطرت على هذه البلدان في ظل الحرب الباردة وتحت راية الاشتراكية، واكتشفوا أيضا أن النظم التي قامت بعد الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا عام 1917 ثم في بلدان شرق أوروبا كان يمكن إصلاحها بدلا من تقويضها، ولكن عملية التقويض الشامل كانت نتيجة مخطط كوني وحشي لا فحسب لإسقاط التجربة الأولى التي خاضها ملايين البشر ببسالة لتجاوز النظام الرأسمالي وإنما أيضا استهدفت العملية القضاء الكامل على هذا الحلم نفسه، بل وتجريم التطلع إلى عالم أفضل ترفرف عليه رايات العدالة والكرامة البشرية والمساواة بإلغاء الاستغلال وإحلال التضامن الإنساني المبدع محله، ووقف نزيف الحروب والعمل الحثيث من أجل تعايش سلمي دعا إليه (لينين) زعيم الثورة الاشتراكية الأولى لدى تأسيس نظام الدولة السوفيتية وبعد التدخل المسلح لإجهاضها من بدايتها قامت به أربع عشرة دولة استعمارية. وفي زيارة أخيرة لي لألمانيا التي تحتفل بذكرى توحيدها العشرين قال لي أصدقاء عاشوا فيها في ظل النظامين أي قبل التوحيد وبعده إن في أوساط الألمان الشرقيين الذين تعرضوا لأشكال من التمييز الصريح بعد سقوط حائط برلين حنين جارف لأيام الاشتراكية، وإن كان أحد لا يطالب بعودة الانفصال، لأن الوحدة القومية كانت أحد آمالهم العظيمة طيلة سنوات الحرب الباردة، وقد تعرض كل أساتذة الجامعات في ألمانيا الشرقية السابقة للاستبعاد شأنهم شأن كل السفراء والعاملين في السلك الدبلوماسي وهؤلاء يتضاعف الحنين للماضي في أوساطهم. كانت النظم الاشتراكية التي ركدت ثم انهارت بفعل مجموعة من العوامل والتدخلات الإمبريالية السرية قد أنشأت شبكة من النظم الرعائية الاجتماعية من الصحة والتعليم والإسكان والنقل والترفيه والثقافة ورعاية الكبار مايزال الناس يتذكرونها بكل خير ويتحسرون على انهيارها، بل إن بعض هذه النظم خاصة دور حضانة الأطفال قد أخذت تتأسس من جديد على نفس النمط القديم. وكان انفجار أزمة الرأسمالية العالمية في العامين الأخيرين مناسبة لإعادة طرح المثل العليا للاشتراكية على جدول أعمال التاريخ، وليصبح الحنين الذي تشعر به الملايين تجاه التجربة التي سقطت مرشدا لها في سعيها لمواجهة آثار الأزمة الاقتصادية. ويصبح تجاوز الرأسمالية مجددا هدفا - ولو بعيدا - لملايين الكادحين في كل أنحاء العالم ولم تتوقف أجهزة الدعاية الرأسمالية الجبارة عن تشويه تاريخ الاشتراكية معتمدة من جهة علي الممارسات المعادية للإنسانية التي مارستها بعض هذه النظم التي انهارت ومن جهة أخرى على ترسانة الأفكار الجاهزة والمستجدة ضد الاشتراكية وللسخرية من فكرتها المركزية وهي تصفية كل أشكال الاستغلال، وتحرير البشر كافة من كل صنوف الخوف والحاجة، وإزالة كل العقبات أمام تطورهم الحر وقدراتهم الإبداعية ومواهبهم التي طالما جرى قمعها بسبب الفقر أو القهر والمصادرة والتمييز في المجتمع الطبقي. ويتضمن هذا الحنين للاشتراكية اعتذارا عن الاندفاع المهووس قبل عشرين عاما لتقويضها بدلا من إصلاحها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

كاريكاتير

كاريكاتير

ميثم راضيميثم راضي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram