كما هو معروف فإن الكاتب في بداياته يجد نفسه يمتلك أداة مهمة من أدوات التعبير، ألا وهي اللغة، فيمضي قدماً في تطوير أداته هذه، والعمل على اكتشاف قدراته الخام ثم تجويدها، حتى إذا تحمس لها وآمن بها سيجد نفسه متورطاً بالكثير من الأوهام، ومتشبثاً، في ما بع
كما هو معروف فإن الكاتب في بداياته يجد نفسه يمتلك أداة مهمة من أدوات التعبير، ألا وهي اللغة، فيمضي قدماً في تطوير أداته هذه، والعمل على اكتشاف قدراته الخام ثم تجويدها، حتى إذا تحمس لها وآمن بها سيجد نفسه متورطاً بالكثير من الأوهام، ومتشبثاً، في ما بعد، بالكثير من المتعلقات الاجتماعية التي قد تغريه بالاقتراب، كالاسم والشهرة والانتشار، وهي أوهام سرعان ما تتلاشى كالضباب، بعد أقل من ساعة على شروق الشمس واقترابها من خط الشروع، لتبقى المكافأة الحقيقية للكاتب هي الإشراقة الخالصة، التي تمنحه إياها فرحة إنجاز أي عمل، سواء أثناء الكتابة أو بعدها.
الكاتب نوع من البشر يهتم بالإنسانية أكثر من اهتمامه بنفسه، والكتابة هي لغة هذا الإنسان الكوني الذي يشعر بأن العالم كله في عهدته، فينتدب نفسه للدفاع عن قيم العدالة والجمال. وتكاد تكون هذه الرسالة: رسالة تغيير نفسه أولاً، ثم العالم، نحو الأحسن هي الحقيقة الوحيدة التي تبقى بعد زوال باقي الأوهام.
ولكن:
بعد أن يتقدم العمر بالكاتب، ويكتسب، مع اقترابه من سن الأربعين، مقاليد الحكمة ورجاحة العقل الخالص، سيجد هذه الرسالة أيضاً يخالطها الكثير من الشكوك والأوهام. فهي أولاً لم تصل كما ينبغي بحكم قلة الإقبال على القراءة، وضعف الانتشار في الوطن العربي،. وثانياً لأن الكثير من المراجعات والاختبارات سيعتري هذه الرسالة ويعترض طريقها، مما يجعل الكاتب ينظر إلى حماسته لها بأسى، وقد يضيفها إلى قائمة حماسات الشباب البريئة التي اعتراها بعض الطيش والغلو، ويتبصر بها ليجدها تقترب، هي الأخرى، من دائرة الأوهام.
فالكاتب يتفاقم عنده الصراع اليومي الذي يعيشه كل إنسان بين أن يفعل الشيء وبين أن يستخف بهذا الفعل الزائل، وهذا الإحساس بعبثية تلك الأفعال يتطور إلى كونها ليست هي مقياسه للنجاح أو الفشل في الحياة. فهو متمرد على الكثير من المسلَمات الإجتماعية التي تواضع عليها الناس بسبب العقائد أو الإيديولوجيات، ومع تقدم العمر وتراكم التجربة وتحديث الخبرات، يمتد هذا الشك لمساحة كبيرة من يقينه، فينعكس حتى على معنى وجدوى الكتابة. ويبدأ الكاتب يعيش صراعاً مريراً بين الاستمرار بها، أو التوقف عنها باعتبارها هي الأخرى عديمة الجدوى.
و لكن يبدو أن الحياة لم تنقرض على هذا الكوكب إلا لأن التشبث بالاستمرار والبقاء أقوى من الإحساس بالعدم أو الفناء، ولهذا واصلت الكتابة بالرغم من كل هذه الشكوك والصعوبات، ربماً لأنها الطريقة الوحيدة التي تمر من خلالها الأفكار الاستثنائية التي لا يمكن النطق بها أو وضعها في نسق شفاهي، إلا أني بدأت النظر إلى الأمور بجدية أقل وشك أكبر، بمعنى أن رسم مسارات معينة يخضع لقوالب معينة، ومقاييس نجاح معينة أصبح موضع اختبار وإعادة نظر لي بالنسبة لي، ولعوالم رواياتي على وجه التحديد، ولهذا انعطفت إلى السخرية في روايتين أخريين إحداهما لم تنشر بعد، والثانية نشرت، وعنوانها (حفيد البي بي سي)، وفيها كانت العجوز المرحة شهرزاد، ذات اللسان البذيء، تتهكم على أولادها وأحفادها وأزواج بناتها، وواحد من أولئك الأحفاد هو بطل الرواية عبد الحليم، الذي يعمل رقيباً للمطبوعات، ويحمل سيفاً بتاراً يفرق به بين الصح والخطأ، فتخيلوا كيف يمكن من رسم حده الصارم بين الحق والباطل على جدار أيديولوجيته التي تربى عليها ولا يعرف سواها، كيف يمكن أن يكون حكمه في المنع أو السماح صادقاً أو عادلاً أو حقيقياً؟ هنا توجب التهكم على هذه الشخصية الدوغماتية المنغلقة على نفسها، وتطويقها من قبل المحيطين بها، ولكنها ستدافع عن نفسها ومعتقداتها في فصل من فصول الرواية..
بعد أن نشرت هذه الرواية طرأ على بالي سؤال آخر؟ إذا كنت قد تهكمت على الرقيب الوفي عبد الحليم في (حفيد البي بي سي)، فأنا من يتهكم علي ! أليس الحد الذي قد أضعه بين الخطأ والصواب قد يكون هو الآخر مرسوماً على جدار وهمي كباقي الأوهام، فيكون بعيداً كل البعد عن الحقيقة.. وجواباً عن هذا السؤال كانت روايتي الساخرة الثانية المنتمية إلى ما وراء القص التي انكتبت على شكل رواية داخل رواية ولم تنشر بعد..
بالرغم من كل هذه المصاعب والشكوك التي تتحدى الكاتب وتقض مضجعه، أقول إن الإنسان كون مصغر يمتثل للقوانين الكونية والشروط البشرية، ولهذا تنعكس هذه الشروط على كتاباته شاء أم أبى، خصوصاً في ما يتعلق بالنظام الهندسي المتقن للزمان والمكان وكل ما نتبيأ معه من عناصر الطبيعة. فعقلنا لا ينص على سواها، ولهذا لن تجد مخلوقاً فضائياً في أفلام الخيال العلمي إلا يشبهنا ولكن بشكل مشوه، كما إننا لا نستطيع أن نصعد طائرة ونجد كراسيها مبعثرة دون أن نشعر بأن ذلك كابوس من الكوابيس، وربما قد نجن إذا سكنا بيتاً جدرانه غير مستوية أو متوازية، أو متناظرة في أشكالها. وهذه القوانين كلها ستجد طريقها إلى كل عمل يبدعه الإنسان مهما اشتبكت عليه خطوط الشكوك والأوهام.
الشهادة المقدمة إلى ملتقى الإمارات للإبداع الخليجي