TOP

جريدة المدى > مسرح > العلاقة بين المكان والشخصية في النص المسرحي..نص الحداد لا يليق بكاليجولا نموذجاً

العلاقة بين المكان والشخصية في النص المسرحي..نص الحداد لا يليق بكاليجولا نموذجاً

نشر في: 6 يناير, 2014: 09:01 م

المكان في النص المسرحي هو أحد مكوناته  ومن أساسياته التي لا يقوم إلا بوجودها  إلى جانب عنصري الزمان والشخصيات والحبكة متصلة مع بعضها في سياق درامي فني وجمالي وفكري ودلالي لتكون بالتالي الشكل النهائي للعمل الأدبي المسرحي .ويختلف المكان في ال

المكان في النص المسرحي هو أحد مكوناته  ومن أساسياته التي لا يقوم إلا بوجودها  إلى جانب عنصري الزمان والشخصيات والحبكة متصلة مع بعضها في سياق درامي فني وجمالي وفكري ودلالي لتكون بالتالي الشكل النهائي للعمل الأدبي المسرحي .ويختلف المكان في النص المسرحي عنه في العرض في ان بعض مفردات المكان في العرض تكون حاضرة بشكل أو بآخر في سينوغرافيا العرض و حسب الرؤية الإخراجية ومنهج المخرج الإخراجي رمزيا أو تعبيريا  أوغيره مما يتيح للمتلقي فرصه بناء المعاني وحل الشفيرات التي يبثها العرض ..أما في النص فإنها اعقد بكثير، إذ ان كل عملية البناء التصوري والتخيلي للمكان /الفضاء المكاني سوف تقع على عاتق المتلقي من خلال بضع  إشارات يجود بها المؤلف ليرسم خارطة الفضاء المكاني الذي سوف تلتقي به الشخصيات ،وهنا لا يكون للمكان إلا وظيفته الإنشائية كما يعبر هنري ميتران.
أما  العلاقة بين المكان وباقي عناصر النص سوف يكملها المتلقي/ القارئ .وهو هنا القارئ الناقد الذي يتمكن من ربط دلالات النص وكشف الجسور والعلاقات في ما بينها وخاصة تلك العلاقة التفاعلية في ما يتعلق ما بين المكان والشخصية الرئيسية ، وهو ما سنتناوله في دراستنا .
وعلى هذا فالمكان في مسرحية الحداد لا يليق بكاليكولا للمخرج والكاتب  المسرحي الراحل كريم جثير الذي يفتح قنوات وعلاقات ووشائج قويه مع الشخصيات  ،وخاصة الشخصية الرئيسية كاليجولا.فالمكان هنا ليس مجرد فضاء يسمح للشخصيات ان تؤدي دورها الدلالي والجمالي بمعزل عن تأثيراته ،بل هو مساهم بتحولات الشخصية ،وبالتالي فهو مؤثر فعال في الأحداث  ،حيث ان كل  انتقال للشخصية في المكان هو انتقال وتحول في الشخصية، ،والذي يؤدي بالضرورة إلى تغيير في مجرى الأحداث والنهايات الدرامية التي تحمل خطاب النص ومغزاه. بل يكاد المكان ان يكون شبيها للشخصية فهو حينا يتمثل ذاتها السلطوية وحينا يتمثل اعمق مكنوناتها من خوف وضعف وحينا آخر يكون سببا في كشف زيف المحيط من حوله .
يكشف لنا المؤلف في أيام الحداد الأربع/التي تقابل الفصول / عن  الفضاء المكاني الذي تدور فيه الأحداث من الخارج إلى الداخل بدءا من  القصر وقاعة العرش ومن الداخل إلى الخارج حيث غرفة نوم كاليكولا و المخبأ  إلى المكان العام الخارجي في النهر والعودة للقصر وقاعة العرش أخيرا. وفي هذا التنقل كشف  للتحولات في الشخصية الرئيسة وكشف  لمكنوناتها وطبيعتها.
الملازمة والتماهي
يتماهى المكان مع شخصية كاليجولا ويشابهها في الصفات بد ءاً من القصر وقاعة العرش ودلالاتها السلطوية  وتأثيرات هذا الفضاء المؤثث بمفردات السلطة والقوة ،على الرغم من انه طمع بأكثر من السلطة الدنيوية ،فهو قد افترض موتا لنفسه وحدادا من اجل ان يعلو فوق حتى هذه السلطه .
 في قاعة القصر كل الجبروت والشعور بالعظمة وحب الذات وتقديسها وتأليهها ووحدانيتها ولا نقيض لها(لانها اذا ما خرجت عن احاديتها سيكون هناك النقيض وهذا ما لا يريده كاليكولا)  ولا شبيه الا المكان الذي يدور فيه ويجد فيه ما يشبهه من رموز العظمة والقوة .ليمنحه القوة في نبذ كل المقدسات عدا وجوده وكينونته وذاته العظيمه. وما هذه العظمة الا شكل يضفيه عليه المكان وعلى ذاته المحبه له والمتمسكة به ،(ليخطر ببالك كل شيء،ان تفنى المملكه باجمعها ،ان تتوقف الارض عن دورانها ،ان تنطفأ الشمس وان يختل نظام الكون بأكمله . لكن اياك ،اياك ان على بالك ان يتزحزح كاليجولا عن مكانه ،فكاليجولا مركز الاشياء ، وعلى الاشياء ان تتحرك حوله) غير انه وعندما يستوي على العرش وينتشي بالشراب فتتراءى له صور واجساد بشر ،هم ضحاياه، تتلوى من الالم وهي تلفظ انفاسها الاخيرة يدرك مدى التعاسة التي يعيشها..  (فما اتعس كاليجولا الذي لم يعد امامه من شيء يقوده الى المتعه والدهشه سوى موته) واقامة الحداد على نفسه ليعيد تنصيب نفسه من جديد كأله اوحد .والمقدس الاوحد،
.المقدس الوحيد هو من يتربع على العرش ،وليس غير كاليجولا من يستحق هذا المجد والعظمه في قصره وعرشه.
وبانتقال كاليكولا الى فضاء مكاني اكثر حميمية واكثر قربا للروح، غرفة نوم كاليجولا /سرير نومه/ فأنه يتحول الى الداخل من الشخصيه ،انه ينقل لنا الطبيعه الداخليه والنفسيه والعاطفيه .بل يتداخل لتنكشف النوازع الخفيه (فمنذ زمن طويل وكاليجولا لم ينم )وشعوره الخفي بالوحدة والملل . هنا يقارن نفسه مع الإله الذي لا يشعر بالملل كونه (يتسلى بجميع ممالك الكون ) ذلك الملل الذي يجعله اقل مرتبة من الإله.
 يتجسد هنا في هذا الداخل ،داخله الروحي / المكاني. وبدل ان يكون هذا المكان فضاء سعادة ومتعه ولذة في الاختلاء بالخليلة  إلا انه(يدفن رأسه في أحضانها  يجهش بالبكاء فجأة) .
إن غرفة نوم كاليجولا / السرير هي مسرح البوح كاشفاً فيها عن كل ما يخفيه عن الآخرين من ماضي مؤلم وسيئ عاشه كاليجولا وخاصة تلك الذكريات عن زوجته (الخائنة) التي أورثته آلام شهريار وعدم ثقته بأية امرأة ثانية ،فسجنها مع كلبه إمعانا في إذلالها .غرفة نوم كاليجولا هي مكان اعتراف عن الضعف وان لم يكن أمام الملأ.
المشهد الوحيد خارج حدود القصر والمملكة/السلطة هو مشهد الزورق حيث كاليجولا متنكرا راكبا الزورق مع صاحب الزورق غير المنتمي لحاشية ولا تابع لأحد .هنا بعيدا عن أجواء التبعية والخضوع لأمر كاليجولا، تكشف طبيعة المكان عن خفايا القصر والخيانات والمؤامرات الحاصلة فيه وخاصة  في ما يتعلق بأمر رئيس الشرطة وزيف أسطورة الإله كاليكولا.وبعيدا عن الضفتين وحيث لا يخشى ان يسمع الكلام احد يكتشف انه هو الوحيد في هذه المملكة الذي صدق حكاية صعوده إلى السماء .
في النهر وفي رحلته القصيرة وإذ تحمله الأمواج بعيدا معها انكشفت كل الأصوات التي سخرت منه والتي كانت ضحية له .ثم ان إشارات المؤلف وتوصيفاته للحالة منحت المشهد بعدا دلاليا يربط كلاً من المكان والشخصية في صفة واحدة هي صفة الجريان نحو المجهول (تحمله أمواج النهر بعيدا معها).
في المخبأ/ عودة إلى المكان الداخلي مع الخليلة والذي يبدأ بالضيق ليدفع بالشخصية نحو نهايتها ..انه يزداد امتلاءً بأصوات القتلى والأصوات  المنادية  برحيله التي ملأت أرجاء المكان /الروح وهو لا يملك عندها وقد كشف له النهر زيفه والمخبأ عن ضعفه فإنه لا يملك إلا ان ينصت لها و(يغادر المسرح).
وفي المشهد الأخير /يوم الحداد الأخير المكان /القصر، العرش ، خال من كاليجولا وإذ يظهر إنما نازلا من اعلى (يأخذ بالنزول ومن ثم يواصل خطواته باتجاه العرش ) كما في أول مرة في يوم  ما قبل الحداد (يظهر كاليجولا في الطابق العلوي متأملا قاعة العرش ،فتنحني النساء له .كاليجولا  يبدأ بالنزول ) وهو نزول للمكان مؤثرا ومتأثرا به .ولكن في مشهد يوم الحداد الأخير هو نزول إلى مكان لم يعد له .بل حضر بطريقة يحاول فيها ان يثبت ألوهيته  في المكان، لكن لم يعد يرى فيه القوة والسلطة والألوهية سوى نفر قليل من حاشيته .وإذ يصل العرش المرصع باللآلئ يستل سيفه ليقتل نفسه(فلا احد يستطيع قتل الإله كاليجولا سوى الإله كاليجولا نفسه) ويطعن تمثاله  النصفي في موضع القلب،ذلك التمثال الذي استقر بمكانه طيلة السياق الدرامي ليخر أمامه  ميتا .إحساسا منه بفقدانه الارتباط بالمكان ،قاضيا على نفسه من خلال احدى مفردات المكان الثابتة ،المكان الذي أعلن ، في النهاية ،براءته من الشخصية وأوصلها إلى حتفها ،اختار كاليجولا  الوجود الآخر .اختار الموت قرب العرش.المكان الذي أراد ان يبقى صنوا له ومتماهيا مع صفاته .
 وفي تتبعنا السابق لعلاقة الشخصية بالمكان نجد ان  الأثر الذي أحدثه المكان بالشخصية  .نوعان الأول تمثل في فعل التعري والكشف لذات الشخصية بما كان يربط بينهما من تشابه  والثاني تعرية وكشف الماحول الذي يحيط بها كاسرا ذلك الرباط وتلك العلاقة المرضية في التمسك به.
من هنا تكمن تراجيديا العلاقة بين المكان والشخصية /الرئيسة  في تعرية للنقائض بين امتلاك السلطة والقوة وبين الخواء الروحي والضعف الذي تعيشه شخصية  كاليجولا .ومن هنا نكتشف الصفة التبادلية بين صفات المكان وصفات الشخصية والتي يكون المؤثر فيها وصاحب الامتياز هو المكان بكل مفرداته التي رسمها لنا المؤلف ،مثل العرش والسرير والقارب والتمثال النصفي لكاليجولا، تلك المفردات التي هي جزء من فعل التأثير الذي مارسه المكان عليها .المكان هو المحرك لكل نوازع الشخصية الدفينة
 بينما تمنح الشخصية احدى صفاتها التي لم يعد يشعر بها وهي الحياة ليأخذ البطولة من بطل السلطة /النص بينما سيسيرها نحو الجمود والتصلب في صورة التمثال النصفي ،فكاليجولا  يشهر سيفه على نفسه  ليطعن التمثال النصفي /ليظهر لنا مدى التحجر والجمود الذي وصلت إليه روحه، والذي أراده صفة للالتصاق بالمكان السلطوي كنوع من الثبات فيه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته
مسرح

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته

فاتن حسين ناجي بين المسرح الوطني العراقي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح في تونس ومسرح القاهرة التجريبي يجوب معاً مثال غازي مؤلفاً وعماد محمد مخرجاً ليقدموا صورة للحروب وماتضمره من تضادات وكايوسية تخلق أنساق الفوضوية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram