في تلك الأيام الصعبة من عام (2000) حين اجتمعنا في أربيل في المنطقة الآمنة الكردية كلجنة تحضيرية للاحتفاء بالشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) ،وكان المرحوم المناضل والكاتب الكبير (فلك الدين كاكائى) رئيسا ً للجنة , فإننا أسسنا في حينه لدبلوماسية التواص
في تلك الأيام الصعبة من عام (2000) حين اجتمعنا في أربيل في المنطقة الآمنة الكردية كلجنة تحضيرية للاحتفاء بالشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) ،وكان المرحوم المناضل والكاتب الكبير (فلك الدين كاكائى) رئيسا ً للجنة , فإننا أسسنا في حينه لدبلوماسية التواصل مع المثقفين العرب داخل وخارج العراق , ردا ً على الحصار الظالم الذي كان النظام الدكتاتوري يفرضه على إقليم كردستان ولإثبات ان شعب كردستان منفصل عن الأجهزة القمعية للنظام السابق وليس منسلخا ً عن الوطن العراقي . وأبعد من ذلك، فالهدف كان بناء جسر متين للتواصل الثقافي (العربي – الكردي) ،وكان وما زال (الجواهري) هو أحد الأوتاد الأساسية والراسخة لهذا التواصل منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية .
ومازال تمثال هذا الشاعر الشامخ في أربيل يعانق الجميع بألفة ومحبة قائلا لهم : قلبي لكردستان يُهدى والفم
ولقد يجود بأصغريه المعدم
وهي القصيدة التي غنتها مؤخرا ً الفنانة القديرة (ميادة الحناوي) لتبقى في ذاكرة الجيل الجديد ولتظل كما طاقية الرأس الكردية التي ظلت على رأسه لا تفارقه طوال العمر لتحفر في الوجدان إرادة شاعر عبَر كل الأخاديد الضيقة إلى فضاء الإنسانية الرحب .
كل عام حين نحتفل بالجواهري الشاعر والإنسان والمناضل ونستلهم منه معاني الوحدة والتآلف والتعايش والتآخي في زمن أصبح فيه كل شيء قابلا ً للتشظي والتمزق , فهو كما الرافدين دجلة والفرات ضمن ثوابتنا العراقية , لذلك يتحول الاحتفاء به إلى استحضار تاريخ طويل بقدر تاريخ الدولة العراقية الحديثة مفعم بالنضال والعطاء والتمرد على الظلم والجنوح للحرية ولثورة الفكر التي لا يمكن ان تتوقف , فهو القائل :
لثورة الفكر تاريخ يحدِّثنا
بأن َّ ألف مسيح دونه ُصلبا
وكان ذلك عام (1994) في مهرجان (أبي العلاء المعري) ،ذلك الشاعر الذي فقد البصر ليكتسب بصيرة حكيم ومفكر وناقد متمرد زاهد في الحياة المادية حافل بقيم حب الإنسان والحق والحقيقة والعدالة . لقد عرف (الجواهري) أن (المعري) علامة فارقة وبؤرة ضوء انعطافية في الشعر والفكر العربي , وانه الأكثر قربا ً إليه في كفاحه من أجل الإنسان . وكما كان عميد الأدب العربي (طه حسين) مستشرفا ً للمستقبل حين منحه منذ ذلك الحين لقب شاعر العرب الأكبر .
لم يهنأ (الجواهري) بحياة مستقرة ،وهذا أمر طبيعي لشاعر طموحه بناء وطن وسعادة شعب وبلوغ ضفاف الحرية والسلام , لكن جزاء رحلته الطويلة في الإبداع كان تجريده من الجنسية العراقية من قبل النظام الدكتاتوري الذي وجد في قصائده ومواقفه وتطلعاته تهديدا ً لوجوده القائم على الجهل والتخلف وقمع حرية الفكر والتعبير .
وحين خرج (الجواهري) تحول وجوده بيننا في سنوات النضال ضمن المعارضة العراقية حافزا ً قويا ً ومبعث فخر لكونه ذاكرة وطن ورمز إجماع وسفرا ً نضاليا ً يمنحنا بحضوره الأخضر شمعة الأمل في نهاية النفق .
وليست بغداد وحدها ودجلة الخير التي حياها ذات يوم قائلا ً :
حييت ُ سفحك ِ عن بعد فحيِّيني
يا دجلة الخير يا أُم البساتين
هي التي تتذكر (الجواهري) , وإنما أيضاً مدينة (براغ) التي قضى فيها ردحا ً طويلا ً من الزمن يكتب قصائد بريد الغربة , ودمشق التي عاش فيها حتى رحيله ليدفن هناك بعيدا ً عن جغرافيـــا الوطن وقريبــــا ً جدا ً من ذاكرة العراقيــين جميعا ً , وحين نقول جميعا ً فنحن نعني ما نقول ،لأن (الجواهري) جمع القلوب كلها على حبه , وكل شعب في العالم يزدهر فرحا ً وفخرا ً بمبدعين يتحولون إلى جزء من الهوية والذاكرة الجمعية .
وحسنا ً فعلت اللجنة النيابية للثقافة والإعلام حين اختارت إحدى قصائد (الجواهري) للنشيد الوطني المزمع إقراره ، وسيشكل تضمين القصيدة بأبيات كردية , وبعبارة "عاش العراق" بكل اللغات العراقية تحقيقا ً للأمل الذي احترقت كل شموع عمر هذا الشاعر الكبير من أجل إضاءته وإنجازه .
فكم جميل هذا العراق بشاعر نلتقي على بستانه الشعري حين تتفرق بنا الدروب والمسالك!