5-7
بعد وفاة المأمون، أهمل الخلفاء الذين جاءوا من بعده العلم، وشغلوا أنفسهم بالصراع على السلطة والانغماس في الملذات، خاصة بتعدد الزوجات ومجالس المجون، وأقصى ما قاموا به - لكي يبدوا مؤمنين - من إنجاز هو تشجيع أو دعم صاحب المدرسة الفقهية هذه أو تلك، أليس هذا ما قام به علي المتوكل بالله أيضاً. فبعد قضائه على ثورة القرامطة "الاشتراكية" في البصرة، وقتله قائدهم يحيى بن زكوريه القرمطي وغلامه الذي لُقب المطوق بالنور وابن عمه عيسى بن مهوريه، بحجة إدعائهم النبوة، أمر لا علاقة له بالحقيقة، لكنه خدمه لكي يبدو أكثر حرصاً من غيره على الإسلام. ولكي يثبت أمام الناس إيمانه وحرصه على الإسلام، ولم يسحق القرامطة بسبب مطالبتهم بالعدالة والحق، فلابد أن يبني صرحاً "إسلامياً" يشير إلى أثره، وهل هناك أفضل من الجامع؟ وليكن الجامع هذا إلى جانب إقامة صلاة الجمعة فيه، مكاناً لكي "تُقرأ فيه عقود القضاة ويصلي على جنائز الأعيان والعلماء" المقربين من الخليفة طبعاً، كما تُعقد فيه حلقات الفقهاء والمناظرين بكل ما له علاقة بالدين والُسنّة! وإذا كان جده الأول أبو جعفر المنصور استغرق 4 سنوات ببناء مدينة بغداد، لماذا لا يستغرق بناء جامعه أيضاً سنتين أكثر؟! ليس ذلك وحسب، بل لتكن منارته أعلى منارة في بغداد يمكن رؤية المدينة كلها عند الصعود على مئذنتها.
ست سنوات استغرق بناء الجامع ، من 901 - 907 م ، وسُمي أولاً بجامع القصر، ثم جامع الخليفة، قبل أن ينتهي أخيراً إلى اسم جامع الخلفاء، لكن تهديمه أو تهديم منارته لم يستغرق غير يوم واحد، ربما ساعات على يد جيش المغول بقيادة هولاكو الذي أطبق مثل تسونامي أو طاعون على بغداد.لا أحد يذكر لماذا فكر أباق ابن هولاكو بإعادة بناء ما هدمه أبوه، أو إعادة بناء منارته كما ظهرت في الصورة، على الأقل وبالذات في عام 1279م، عندما كان التتري عطا ملك الجويني والياً على بغداد؟ ولو لم يصف الرحالة المغاربي ابن بطوطة الجامع هذا في زيارته بغداد عام 1327 م، والذي أدهشته نقوش المنارة المحيطة بالسطح الدائري بأشكالها المعينية البسيطة، والتي بدت كما لو صُففت لتبرز من خلال الظلال المتباينة في الخط الآجري، لما ظن أحد، أن المنارة المبنية من الآجر فقط، ستصمد سنوات ودهور، قرابة سبعة قرون، قبل أن تتعرض إلى محاولات للهدم أو النسف، سواء عندما ستسقط بفعل الإهمال وعدم الصيانة كما حصل لها في زمن الاحتلال العثماني، ليأمر ببنائها من جديد الوالي العثماني سليمان الكبير 1779 – 1802م، الذي شيد أيضاً إلى غربها جامعاً لا علاقة له بالجامع القديم، وليصبح اسمها منذ ذلك الحين منارة سوق الغزل، لأن الجامع قد قُطعت أرضه منذ عقود وأنشئ عند حدوده الشرقية سوق للغزل، أو سواء بسبب تدخل السلطات، كما حصل هذه المرة في فترة الاحتلال البريطاني؛ الإنكليز أرادوا نسف المئذنة بحجة أنها تعرضت إلى التلف بسبب عوامل الطبيعة مما أثر على زخرفتها وأصبحت آيلة للسقوط. محاولة الإنكليز تلك فشلت بعد أن وقفت دائرة الآثار العراقية ضدها والتي أخذت على عاتقها مهمة صيانتها. في عام 1957، كان على المنارة أن تستفيق على حفارات تهدم الجامع الذي بناه سليمان الكبير والذي أمرت السلطات بهدمه لأجل فتح شارع الجمهورية الذي يمر بسوق الشورجة (من يجرؤ اليوم على تهديم جامع في العراق أو في مناطق الشرق الأخرى؟). في سنة 1960 شُيدت مكان المئذنة القديمة مئذنة جديدة وأعيد بناء الجامع على الطراز الذي بُني عليه أيام العباسيين.
المفارقة هي أنني في زيارتي الأولى للجامع الجديد الذي بُني في أوائل الستينات لم أتعرف على المنارة القديمة، ليس لأنها رُممت حتى بدت كأنها جديدة، بل بسبب الجامع الجديد الذي بُني إلى جانبها، من جهة سوق الشورجة، والذي أحيط بسياج من حديد، في الحقيقة السياج وحده هو تحفة من الفن والإبداع.
يتبع
تاريخ بطاقة بريدية
[post-views]
نشر في: 14 يناير, 2014: 09:01 م