من بين الأماكن التي غادرتها بالعراق، ولم تغادرني حتى اللحظة، منطقة الصالحية ببغداد حيث مبنى الإذاعة والتلفزيون. أتذكرها فتتفجر في نفسي حسرات على أيام وليال كانت أجمل ما في العمر. ليس المكان بل الناس الذين كانوا هناك. وأي ناس؟ جبار الغزي، عبد الله حسن، جودت التميمي، زامل سعيد فتاح وخالد الشطري. ماتوا كلهم.
في الغربة كنت أحدث من التقيهم، او قولوا أدوّخهم، بسوالف هؤلاء الشعراء الميتين. انهم رغم تشابههم في التمرد على ما هو سائد في آنها، الا ان كلا منهم له دنياه الخاصة. يطول الحديث لا بل قد يصبح كتابا لو توقفت عند خصوصية كل منهم. هذا الذي كتبته الآن كنت قد قلته لصديق، قبل عام فرد علي: ولم لا تكتب عنهم كتابا إذن؟ كان رأيه انهم يشكلون ظاهرة لا تتكرر بعد ان رحلوا جميعا.
بطبيعة الحال لم أكن وحدي من عاشرهم. كان من بين أهم رغباتي في وسط التسعينات، عندما بدأ بعض الشعراء بالرحيل عن العراق الى الأردن طلبا للجوء، ان التقي هؤلاء اللاجئين الجدد لأسمع منهم ما فاتني سماعه عن الذين ماتوا بسبب بعدي عن العراق. اكتشفت ان الحصار الأسود لعب دورا في تشتت الناس عن بعضها فلم أجد عند أي من الذين التقيتهم ما يشبع النفس العطشانة لسماع ما حل بأصحابي قبل وبعد موتهم.
قبل نصف عام وانا في القاهرة حنّت ومنّت علي الصدف برمز من رموز الصالحية كان أقربنا جميعا لشلة أصحابي الموتى. انه الفنان ريسان مطر. ريسان هذا ومن شدة ارتباط الصالحية وناسها بداخله اختار له بارا صغيرا منزويا في شارع ضيق بالدقي لينزوي به كل يوم أطلق عليه اسم "سميرا ميس". كان ذلك تيمنا منه بالبار الذي يحمل نفس الاسم ويقع في قلب الصالحية. في ذلك البار كان يجتمع الموتى كل يوم تقريبا. يحمل ريسان مطر بقلبه العراقي الصادق سجل ذكريات وأحاديث طويلة عن الصالحية وشعرائها.
عدت من لندن الى القاهرة وانا مصمم هذه المرة على ان اعمل بنصيحة صديقي واباشر بتأليف كتاب عن "سوالف الشعراء الميتين". قصدت بار "سميرا ميس" لاستمع لريسان وأوثق ما يرويه لي. لم أجده هناك. سألت عنه فقيل لي انه غادر منفى القاهرة إلى منفى بيروت. ياول حظ!
سوالف الشعراء الميتين
[post-views]
نشر في: 15 يناير, 2014: 09:01 م